أمام الطليعة الثورية، التى أطلقت ثورة يناير وظلت مخلصة لها حتى تجددت فى ثورة 30 يونيو، ثلاثة خيارات فى الوقت الراهن حتى تتحقق مطالب الثورة كاملة، هى:
1 ـ العودة إلى الميادين: وذلك للاحتجاج على السياسات القائمة باعتبارها لا تترجم مبادئ الثورة (عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية) فى الواقع المعيش، ومن منطلق الإيمان بأن ابتعاد السلطة الحالية أو القادمة عن «الخط الثورى» سيؤدى فى النهاية إلى شحن رصيد غضب جديد فى نفوس الناس وقلوبهم، لاسيما أن الثورة قامت أصلا نظرا لأن شروطها كانت قائمة بقوة فى عهد حكم حسنى مبارك، حيث تزوير الانتخابات، واستشراء الفساد، واحتكار القرار السياسى، وسطوة الأمن الغاشمة، والفجوة الطبقية الهائلة، والتجبر البيروقراطى الظاهر، وتراجع مكانة مصر إقليميا ودوليا.
والاحتجاج المباشر قد يؤدى إلى عدة نتائج أولاها إمكانية تنبيه السلطة إلى تأخر الاستجابة للثورة ودفعها إلى اتخاذ ما يلزم حيال هذا الاستحقاق المنتظر. وهذا بالقطع أكثر الاحتمالات أمنا وسلاما وعدلا أيضا. وثانيتها: عناد السلطة، ومن ثم استمرار التظاهر بما يعرض مصر لتكون دولة فاشلة، بعد أن نزفت كثيرا وطويلا نتيجة استمرار الاضطراب السياسى. وثالثتها، قيام جماعة الإخوان، إن كانت لاتزال فى حالة مواجهة مع النظام الحاكم، باستغلال هذه الاحتجاجات من جديد لصالحها، وامتطائها مثلما امتطت ثورة يناير، وتحويلها كقوة دفع فى الضغط على السلطة من أجل إجبارها على تقديم تنازلات لحساب الجماعة. وهنا يكون الثوار محل تلاعب جديد من قبل الإخوان، بعد أن تحولوا فى النهاية إلى دفقة نقية من دم جديد تنساب فى شرايين الجماعة فتقويها. والجماعة نفسها تراهن على هذا الخيار، فتطرح نفسها، كذبا وافتراء، باعتبارها راعية ثورة يناير أو حارستها، حتى تخدع شباب الثورة، الذين أزعجهم خروج بعض الوجوه لتشكك فى ثورة يناير وتصفها، زورا وبهتانا، بأنها كانت مؤامرة خارجية.
2 ـ مسار الانتخابات: أى إمكانية أن تكمل هذه القوى بالصندوق ما سبق أن بدأته بحناجرها الهادرة، وأياديها التى كانت تدق الهواء، أو بالسواعد التى واجهت قوات الأمن فى ثورة يناير. لكن ما يجعل الثوار مترددين من المضى قدما فى هذا الخيار أن إمكانياتهم المادية لاتزال محدودة، كما أنهم لم يتوحدوا بعد بالقدر الذى يتيح لهم منافسة أصحاب المال أو المستندين إلى ظهور قبلية وعشائرية وعائلية. كما يعرقل هذا الخيار حالة الضعف التى عليها الأحزاب السياسية المصرية فى الوقت الراهن، وهى مشكلة مزمنة، بدأت بعد عودة الحياة الحزبية عقب ثورة يوليو فى مصر، لكن هذا العيب يمكن تفاديه إن توحد التيار المدنى المرتبط بالثورة فى هذه اللحظة الفارقة ليملأ الفراغ السياسى الكبير الذى تعيشه مصر فى الوقت الراهن.
3 ـ التحالف مع السلطة أو الصمت حيال أفعالها، والصبر عليها، خوفا على الدولة التى دخلت فى مواجهة حاسمة مع الإرهاب. فكثير من هذه القوى يرى أن الوقت غير مناسب لممارسة ضغوط شديدة على سلطة مؤقتة تقع على كتفيها مهمة ثقيلة وهى إعادة الأمن إلى الشارع ومواجهة التآمر الدولى على البلاد، فضلا بالقطع عن مكافحة العنف المفرط والإرهاب الذى تمارسه جماعة الإخوان وحلفاؤها. ويعتقد هؤلاء أن الدفاع عن السلطة الحالية بوصفها نتاجا لثورة 30 يونيو، والجسر الواصل بين مرحلتين فى تاريخ البلاد، عمل لابد منه، لأن العكس يعنى رفع الغطاء السياسى عنها، وتعريتها أمام خصمها الأول وهو الإخوان، بما يصب فى صالح هذه الجماعة فى النهاية، مما يشكل خطرا جديدا على الدولة.
لكن نجاح الثوار فى تحقيق أهدافهم يظل مرهونا دوما بانضمام القاعدة الشعبية إليهم، فحين انضم عموم الناس إلى الطليعة الثورية يوم 28 يناير 2011 حدث الاختراق أو التحول الكبير نحو إسقاط حكم مبارك. وتمتع المجلس العسكرى السابق بهذا شهورا، فلما ساءت صورته فى أذهان الناس، راح يتساقط تدريجيا، بينما راحت فرص الإخوان تتعزز مع احتضان أغلبية الشعب لهم فى الانتخابات التشريعية والرئاسية. وحين استبد الإخوان، وبدأ فسادهم الإدارى، وبانت الهوة الواسعة بين رغبتهم وقدرتهم، وبين ما وعدوا به وما يفعلونه فى الواقع، راح من عولوا عليهم ينفضون عنهم، ويذهبون فى اتجاه الثوار الذين هيأوا الشارع للانتفاض من جديد، وهو ما جرى بالفعل وأسقط مرسى عن الحكم، وبدأت عملية تصفية تواجد الإخوان فى أركان السلطة ومؤسساتها، وأخذت القاعدة الشعبية تتجه من جديد إلى الجيش لتقف إلى جانبه وتؤيده وتقدره، لاسيما بعد الدور الذى لعبه فى حماية ثورة 30 يونيو.
وسوف تتم ترجمة إرادة الشعب من جديد فى عمليات الاقتراع المقبلة، البرلمان والرئاسة وقبل ذلك الاستفتاء على الدستور، لتحدد القاعدة الجماهيرية إلى من تميل، ومن يحظى بتأييدها ستكون له اليد الطولى فى الحياة السياسية المقبلة. كما يمكن لهذه الإرادة أن تترجم، حال تردى الأمور، إلى احتجاج جارف يعيد صياغة الأوزان السياسية النسبية من جديد.