وأنا فى الجو أتصفح عناوين الأفلام، لأشاهد منها واحدًا، فى أثناء سفرى استوقفنى فيلم «الخروج» الذى منعته الرقابة فى أواخر عهد حسنى، واستمر المنع فى أيام مرسى، ولا يزال ممنوعًا فى زمن عدلى.
ثلاثة رؤساء مرّوا على مصر، قدمنا فيها ثورتين وكان الشعار هو الحرية، ورغم ذلك انهزمنا ولم نستطع التصريح بعرض فيلم يدعو هو أيضًا للحرية.
الفيلم وصل إلى الجو، فكيف يمنع من الأرض، السبب الرسمى والذى تتم الإشارة إليه تلميحًا وليس تصريحًا هو أن الأمن القومى -المخابرات العامة- منعت تداوله حتى فى المهرجانات داخل مصر، وبالفعل بعد أن تم برمجته فى الدورة الأولى لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية الذى أُقيم فى فبراير 2012 تم رفعه فى اللحظات الأخيرة.
أول مرة شاهدت الفيلم فى مهرجان «دبى» الذى عقد فى نهاية 2010، قبل أسابيع من رحيل مبارك، ومن الواضح أن هناك تسريبات وتشنيعات مارسها البعض ممن شاهدوا الفيلم أدّت إلى أن تتوجّس الرقابة من العرض الجماهيرى وتزيد مساحة الخوف لترفض أيضًا عرضه فى المهرجانات.
سر الحدة والصرامة هو الخوف المرضى من أن يعكّر هذا الفيلم صفو العلاقات بين المسلمين والأقباط.
الفيلم أول إخراج لهشام العيسوى، والذى شارك أيضًا فى كتابة السيناريو.. تناولت الأحداث عائلة مصرية تدين بالمسيحية، إلى هنا الأمر يبدو عاديًّا، استطاع المخرج أن يقتحم الخط الأحمر فى التعامل مع الشخصية القبطية وتغلغل أكثر فى تفاصيل هذه العائلة، لنرى الابنة الكبرى التى لعبت دورها صفاء جلال وقد صارت فتاة ليل، تبيع شرفها من أجل أن تضمن حياة كريمة لابنها، الشقيقة الصغرى الوجه الجديد ميرهان، على علاقة غير شرعية بشاب مسلم لعب دوره محمد رمضان، كان وقتها مجرد وجه جديد، الفتاة تريد الزواج منه وتهدّده بأنها حامل.. زوج الأم أحمد بدير يلعب القمار ويستحوذ على أموال العائلة عنوة.. بالطبع لو أن هذه العائلة مسلمة فسوف يتقبلها المجتمع المصرى بمسلميه وأقباطه دون حساسية، ولكن طبقًا لكل التجارب السابقة فى التعامل مع الشخصيات القبطية التى تحمل أى قدر من الإدانة الأخلاقية سواء المسلسلات أو الأفلام، فإن الغضب بل والمظاهرات داخل الكنيسة وربما أيضًا خارجها هو المصير الحتمى الذى ينتظرها!!
تعوّدنا أن نضع أوراق «السوليفان» على الشخصية المسيحية لنرفع راية مكتوبًا عليها ممنوع اللمس أو الاقتراب، الإحساس العام الذى يسيطر غالبًا على صناع العمل الفنى أن المتفرج لا يرى شخصية من لحم ودم، ولكنه يعتبرها نموذجًا لكل الأقباط فى مصر، وهكذا صار لدينا اتفاق ضمنى لاستبعادها منعًا للتأويل!!
المعالجات الفنية التى اقتربت من العائلة المصرية القبطية وحملت إدانة أخلاقية وجّهت إليها انتقادات مباشرة من الكنيسة الأرثوذكسية فى مصر، أشهرها «بحب السيما» 2004، رغم أن الهدف الفكرى لم يكن هو الحديث عن الديانة بقدر ما هو تناول عائلة مصرية!!
الحقيقة هى أن المشاهد المصرى وأيضًا العربى تعوّد على رؤية الشخصيات المصرية فى الأغلب مسلمة، وإذا قدّمت شخصية قبطية فإنها غالبًا إيجابية. هذه المرة مع فيلم «الخروج» لا توجد هذه المعادلة رغم أن المخرج ربما بعد نصيحة من أحد العاملين بالفيلم قدم علاقة هامشية عاطفية موازية بين قبطى ومسلمة، من أجل تمرير وتبرير العلاقة الرئيسية بين مسلم وقبطية، مأزق هذه الأفلام هو أن المتفرج لم يألف رؤية شخصيات قبطية تمارس أى قدر من الانحراف وبدلًا من أن يشاهد الجمهور شريطًا سينمائيًّا به عائلة مصرية سوف يراها عائلة قبطية بل ويعتبرها البعض فى هذه الحالة تحمل إدانة شخصية لا درامية، نكتشف حتى أن بين المثقفين هناك عدد منهم يرفض أن يرى شخصية قبطية منحرفة، ورغم ذلك فإن الحل لا يمكن أن يصبح هو المنع الرقابى، ولكن أن يألف الجمهور مشاهدة العمل الفنى ولا يرى شخصيات تعبر عن أديان بقدر ما يراها تحمل همومًا وأحلامًا وإحباطات عائلة مصرية!!
يجب أن نعترف أن ما نراه فى الدراما من حساسية تتحمل وزره الحياة الفنية والثقافية والاجتماعية والسياسية المصرية، لأنه كلما طال الابتعاد والغياب زادت الحساسية. لدىّ ملاحظات عديدة سلبية على الفيلم، ولكنى أدافع عن حق المخرج فى أن يرى فيلمه النور ويُعرض للناس على الأرض مثلما هو متاح فى السماء!!