حكيت أكثر من مرة عن صديقى سعيد بُقو «صبحه الله بكل خير» ذلك النشال الغلبان الذى تمتعت بصحبته وذقت من حلاوة جدعنته، عندما استضافنى نظام المخلوع أفندى «مبارك» وولده لمدة ستة شهور كاملة فى سجن مزرعة طرة، نهاية تسعينيات القرن الماضى.
هذا الصديق المسكين الذى كان يؤمن بنوع من التكافل الاجتماعى بين الغلابة أمثاله، يبرر ويسوغ له الحصول على رزق شحيح من خلال العبث فى جيوب إخوة الفقر والبؤس ركاب المواصلات العامة، أفتى أمامى فى أحد صباحات السجن الكئيبة بأنه كان يفضل أن يختار الأمريكيون وحلفاؤهم فى الغرب شخصية ذات بشرة بيضاء يهدونها منصب سكرتير عام الأمم المتحدة بدلا من الدبلوماسى الإفريقى الأسود «من غانا» كوفى عنان، الذى تولى وقتها هذا المنصب خلفا للدكتور بطرس بطرس غالى بعدما أصرت واشنطن على إبعاد هذا الأخير وعدم التجديد له.
روعنى ما قاله صديقى النشال النابه، ولم أقوَ على إخفاء امتعاضى الشديد من هذا المنطق العنصرى البغيض واعتبرته غريبا على ثقافته «البدائية» والعميقة فى آن، فضلا عن رقته وجدعنته وروحه السمحة الطيبة، إضافة إلى لون بشرة وجهه التى أضفى سمارها الداكن على وسامته المزيد من الجاذبية والأناقة.. لهذا وجدتنى أهتف فيه بغضب: إيه الكلام الفارغ ده يا سعيد، بقى يعنى كل عيب كوفى عنان إنه إفريقى أسود.. طب خلى حد تانى غيرك يقوله، ولّا إنت بتعتبر نفسك من سويسرا البلد؟!
ابتسم «بُقو» ابتسامة ساحرة لكنها لا تخلو من مكر لذيذ، ولم يشأ أن يرد فورا، وإنما تمهل لحظات وأخذ رشفة عالية الصوت من «كوز الشاى» الملهلب الذى كان يقبض عليه، ثم سحب ابتسامته فجأة واستبدلها بضحكة مجلجلة أطلقها قبل أن يكسى صوته بنبرة مرحة وهو يقول لى: بس استهدى بالله كده يا أستاذ وماتزعلش نفسك قوى كده.. أولا، أنا فاهم كويس قوى إنى مش من سويسرا ولا نيلة، وإنى مجرد راجل غلبان تعبان وضاربه السلك ع الآخر، وكمان أسود بس مش قوى كده زى الحاج عنان، بس حضرتك عارف برضه إنهم مش ح يمسّكونى رئيس الأمم المتحدة.. وبعدين ثانيا، أنا ماقصدش ولا أعرف البتاعة «العنصرانية» اللى سيادتك بتقول عليها دى، أنا كل قصدى إن خلق الله التعبانين اللى زينا وزى الحاج كوفى بيبقوا حاسين إنهم «قلة ودون شوية» وعشان يرضوا بتوع أمريكا وأوروبا لازم يعملوا نفسهم «بيض» قوى أكتر من البهوات اللى عيّنوهم، لذلك تلاقى كتير منهم لما ربنا يكرمه ويعَلّى مراتبه ويوصل، ينسى نفسه وأصله ويدوس بزيادة قوى على ناسه وأهله وبلاده.. عشان كده أنا شايف إننا ناخدها من قصيرها ونطلب دايما إن اللى يمسك المناصب دى يبقى راجل أبيض أصلى وشبعان بياض، عشان مايطلعش علينا عقده وما «يستبيضش» علينا وعلى أهالينا ويودينا فى ستين داهية..!!
هكذا أفتى وتفلسف سعيد «بُقو» من سنوات وغدا إن شاء الله، سأحكى لحضرتك علاقة هذه الفتوى وتلك الفلسفة بالأخ باراك أوباما، الذى هو أول رئيس إمبريالى أمريكى منتخب أسود البشرة!!