بعد حالة من الاندفاع باتجاه ضرب سوريا قادها عدد من الدول العربية الخليجية وتركيا، بدأت الولايات المتحدة والدول الأوروبية فى إعادة حساباتها بشأن توجيه ضربة عسكرية لسوريا من ناحية وطبيعة وحجم الضربة من ناحية ثانية، وبدا واضحًا أن واشنطن وعددًا من العواصم الأوروبية قررت مراجعة حساباتها عبر العودة إلى برلماناتها للحصول على تفويض -غير مطلوب فى حالات كثيرة- وهو أمر يفهم منه قرار بإعادة الحسابات. السؤال هنا وماذا بعد؟ بمعنى هل إعادة الدول الغربية لحساباتها بشأن توجيه ضربة عسكرية لسوريا تعنى عدم توجيه هذه الضربة وترك القتال دائرًا فى سوريا؟ المؤكد أن ما يجرى فى سوريا يمثّل خطرًا شديدًا على تماسك بل وبقاء هذا البلد من ناحية وعلى الأمن والاستقرار فى المنطقة من ناحية ثانية، صحيح أن ضرب سوريا سيرتب مخاطر عديدة، منها إنهاء وجود الدولة السورية الموحدة وتقسيمها إلى ثلاث دويلات على الأقل، ومنها أيضًا سيطرة الجماعات المتشددة التابعة لجبهة النصرة (المنتمية إلى تنظيم القاعدة) على دويلة من هذه الدويلات، ومنها وقوع عمليات قتل على الهوية وتطهير عرقى للوصول إلى دويلات «نظيفة عرقيًّا وطائفيًّا». فى نفس الوقت، فإن تقسيم سوريا ووقوع دويلة أو أكثر تحت سيطرة جماعات متشددة سوف يؤدّى إلى تطاحن بين هذه الولايات وصراعات على الحدود وصراعات للانتقام من بعضها البعض فى ظل تدخلات مكثفة من قوى إقليمية على رأسها تركيا وإيران. أيضًا فإن تصاعد حدة الصراع سيقود إلى توتر إقليمى واسع النطاق وليس مستبعدًا أن يصل إلى إسرائيل، فوجود عناصر مسلحة تابعة لتنظيم القاعدة إلى جوار إسرائيل سوف يشجّع هذه الجماعات على استهداف الأراضى الإسرائيلية والسير فى طريق «تحرير فلسطين».
هل هناك مخرج لهذا الوضع المعقّد؟ المؤكد أن هناك إمكانية لفرض حل سياسى فى الفترة القصيرة القادمة بعد أن تجرى عملية تهيئة الأطراف المختلفة إلى حل لا يقوم على مباراة صفرية، بمعنى أن أى طرف لن يحقّق أهدافه بالكامل ولا بد أن يقبل بحلول وسط، فلا بشار الأسد سيتمكن من القضاء على المعارضة ممثلة فى الجيش السورى الحر، جبهة النصرة وغيرها من المعارضة المسلحة، ولا بإمكانه تجاهل المعارضة السياسية الساعية إلى تغيير شامل فى سوريا. فى الوقت نفسه، لا يتوقّع أن تتمكن المعارضة السورية من تحقيق انتصار شامل على قوات الأسد، ومن ثَم تفرض سيطرتها على الأراضى السورية حتى لو تدخّلت القوى الغربية ووجّهت ضربات لقوات الأسد. ويبدو واضحًا فى الوقت نفسه أن الأسد يدرك اليوم أن المعادلة قد تغيّرت بالكامل وأن الضربة الغربية لقواته -والتى تظل احتمالًا قائمًا- إذا ما حدثت فسوف تنهى نظامه وتضيّق الخيارات أمامه، وبالتالى فالخيارات القائمة اليوم، أى قبل توجيه ضربات عسكرية غربية، متنوعة ويمكن لأحد هذه الخيارات أن يوفّر للأسد وعائلته مخرجًا آمنًا. وفى تقديرى، أن روسيا الاتحادية وحدها قادرة على الوصول مع الأسد إلى صفقة من هذا النوع، فروسيا تعلم تمامًا أنه ليس بمقدورها منع ضربة عسكرية أمريكية لسوريا، وأن مصالحها المتشابكة مع واشنطن والعواصم الغربية تمنعها من تصعيد التوتر مع هذه الدول دفاعًا عن نظام الأسد، وفى نفس الوقت فإن روسيا الاتحادية لديها فرصة حقيقية لممارسة الضغوط على بشار الأسد لإقناعه بقبول حل سياسى ينطوى على توفير مخرج آمن له ولعائلته، ويمكن أن تعرض عليه اللجوء السياسى على أراضيها، وتوفر فى الوقت نفسه إطارًا للحل يسمح بتعايش الطوائف والأعراق المختلفة فى دولة سورية موحّدة عبر ضمانات دولية توفّرها القوى الكبرى من خلال الأمم المتحدة.
المؤكد أن الفرصة سانحة أمام الدبلوماسية الروسية للتوصل إلى حل من هذا النوع وتوظيف علاقاتها الجيدة ببشار الأسد ونظامه، وفى الوقت نفسه، يمكنها تقديم هذا الحل باعتباره يوفّر مخرجًا للحكومات الغربية من أزمة حادة جعلتها تعيد النظر فى قراراتها أكثر من مرة. نعم، المخرج متوافر ومن خلال الدبلوماسية الروسية، المهم أن يقبل بشار الأسد بهذا الطرح ولا يكرر أخطاء مَن انتهى بهم الحال إلى تدمير بلادهم وتشريد ما تبقّى من شعبها والوقوع بيد الأعداء.