هبط الآن على رصيف ميناء دمياط، التفَتَ حوله، تأمَّلَ الوجوه بملامحها التى يراها لأول مرة، هو هنا كى يفهم تلك الوجوه حين تبتسم وتغتمّ، حين تعبث وتهتمّ، يحاول أن يفك رموزها ويغوص فى أغوارها ويستكشف عقولها ثم يدخلها لو كان هناك وقت. قطع صمته شيّال اندفع نحوه فى حماسة وقال: حمد الله على السلامة يا خواجة، استغرب الرجل من الشيّال الهاشّ الباشّ كأنه ينوى حضنه، أضاف الشيّال: انت جيت على مركب «بوميلا» مش كده يا خواجة شكلك مابتعرفش عربى، لكن صبرك بالله، همه شوية فى البلد دى وتتكلم عربى أحسن من سيبويه، هات الركايب بتاعتك هات، على فين العزم إن شاء الله، القاهرة ولّا المنصورة، شكلك رايح القاهرة.
كان الرجل مسافرا فعلا إلى القاهرة، لكنه مكث فى دمياط قليلا، وسافر إلى المنصورة أيضا، جلس على المقاهى وشرب عنابا وليمونا بالنعناع وينسونا وضرب حجرين شيشة حتى احترفها، ودخل جامعَى الأزهر وعمرو بن العاص وقابل شيوخا والتقى مع أمراء وعسكر، وتجرع خمرا غريبا فى حانات فقيرة، ولفّ ودار وراح وجاء ونام وأكل وشرب، ثم عاد إلى ميناء دمياط.
ولا يعرف لماذا تذكَّره الشيَّال نفسه بعد عام كامل، حمل الشيَّال أشياء وحاجات وحقائب الأوروبى العائد إلى بلاده، وسأله مازحا: إنما اسم الكريم إيه؟
رد الخواجة مبتسما: والله انت راجل عسل.. اندهش الشيال: دا انت عرفت عربى، عموما نوَّرت البلد كلها يا خواجة، رد الرجل فى هدوء كأنما يأتمنه على سر، أنا اسمى جودفرى البويونى..
قال الاسم ببطء محشو بالسعادة، وحاول الشيال أن يردده معه مرة أخرى ليحفظه..
بعد عشر سنوات من هذه الزيارة عاد جودفرى البويونى إلى الشرق.. فقط تغير الوضع يومها.. تحوَّل من مجرد سائح ومسافر إلى أول حاكم للصليبيين على القدس مملكة الرب!
كان هذا منذ 910 سنوات تقريبًا!