يلهث الإعلام وراء المشاهير ويلتقط مواقفهم السياسية وكأنهم قد عثروا على دُرة ثمينة رغم أنها فى العادة آراء يعْوزها النضج ويغلب عليها الانفعال ويشوبها الكثير من النفعية وغالبا ما تحتمى بمظلة السلطة القائمة.
هى فى كل الأحوال مادة جذابة فى الفضائيات، فدائما ما يعتقد العاملون فى «ميديا» الإعلام أن الفنان يمتلك رؤية وعمقا وهو فى الحقيقة لدية شهرة وقدرة على الجذب تضمن أن يتابعه الناس ولكن غالبا ما تتبدد بمجرد أن يفتح الفنان فمه ويتكلم.
هم يحبون بتطرف ويكرهون بعنف، شاهدت وتابعت علِى الحجار على سبيل المثال فى مواقف عديدة فهو حاليا يتّهم قناة «الجزيرة» بأنها تقدم أغنيته عن الشهيد فى 25 يناير لتوحى بأنها تقدم أغنية عن شهداء «رابعة العدوية» وهذا بالتأكيد تزييف وتضليل لا يجوز السكوت عنه ويجب فضحه كما فعل بالضبط الحجار.
ولكنى وتحديدا فى شهر أبريل 2011 كنت أتابع مهرجان «الجزيرة» للأفلام الوثائقية فى دورته السابعة، وكان ضيف الشرف هو الحجار وصعد إلى خشبة المسرح الذى أقيم فيه الافتتاح وقال بالحرف الواحد «شكرا لقناة الجزيرة لأنها علّمتنى حب مصر». كان معنا فى الوفد المصرى الكاتبان الكبيران محفوظ عبد الرحمن ويوسف زيدان وبعد انتهاء فقرته وتكريمه حاولنا أن ننقل له إحساسنا بالغضب تجاه هذه الكلمات المنفلتة التى جرحت مشاعرنا، إلا أننا فوجئنا أنه مُصرّ على أنه قال الكلمة المتزنة والمنصفة وفى المكان الصحيح، يا على حب مصر! لن تعلمه لك فضائية عربية ولا حتى تليفزيون الدولة ولكنها مشاعر يرضعها أى إنسان على ظهر البسيطة مع حليب أمه.. عبد الوهاب غناها قبل أكثر من 70 عاما «حب الوطن فرض علىَّ» وتناقلتها الأجيال وأظن أنك غنيتها ضمن ما أعددته من أغنيات التراث القديم ولكن «تقول لمين»! كانت مشاعر علِى وقتها فى ذروة التوحد مع «الجزيرة» ولم يكن يلوح فى الأفق أى سحابة خلاف، فترك لمشاعره العنان واتهمَنا نحن بالتصيّد، ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يترك انفعالاته الشخصية بلا مراجعة، فلقد سبق له أن غنَّى لمبارك «النسر المصرى شقّ السما» وعندما قالوا له كيف تغنى لمبارك وأنت دائما تردد أنك لم تغنِّ أبدا لرئيس؟ أجاب: لم يخبرنى لا الكاتب عبد السلام أمين ولا الملحن عمار الشريعى أنها عن مبارك!
لم أقصد فى الحقيقة أن أتناول فنانا بعينه يتأرجح فى مواقفه لأنه ليس هو فقط الذى ينتقل بين كل المواقف ولا يدرك أننا نعيش فى عصر التوثيق، ولكن الحجار يأتى فى السياق ربما كنموذج صارخ لفنان صنع عند الناس صورة ذهنية بأنه يقدم أغنيات نضالية، بل إنه خصوصا بعد سقوط مبارك كثيرا ما أعلن أنه كان مضطهَدًا فى النظام الأسبق بسبب أغنيته «عم بطاطا».
هناك أيضا إحساس نفسى يجب أن نضعه فى الحسبان عند تناول الفنانين ومواقفهم وهى أنهم فى العادة يعتبرون أنفسهم محور الحياة ومركز الكون وأن الأجهزة الأمنية لا همَّ لها سوى متابعتهم وأن السلطة القائمة لا هدف لها إلا استقطابهم، وعلى هذا فإن أى إخفاق فنى مرجعه الوحيد هو مواقفهم الثورية ضد النظام، إيمان البحر درويش مثلا يعتبر أن تراجعه الفنى مردُّه أن السلطة السياسية أيام مبارك لم تكن راضية عنه لأنه كان يرفض الغناء للرئيس. حتى محمد ثروت أكثر الأصوات التى تغزّلت فى مبارك خلال السنوات الأولى من حكمه قال إنهم استبعدوه من حفلات أكتوبر منذ منتصف التسعينيات، لأنه فى حوار إذاعى سألوه: هل أنت من عائلة مبارك -وكانت هذه الشائعة كثيرا ما تتردد بسبب تشابه الملامح بينهما- فأجاب نافيًا ومعقِّبا «مبارك من المنوفية وأنا من طنطا فكيف أصبح من العائلة»، يقول ثروت إن الأجهزة الأمنية اعتبرت هذا تعريضا بشخص الرئيس، ومن وقتها صار فى القائمة السوداء، والحقيقة التى لا يعترف بها ثروت أن السلطة اكتشفت أن هناك جيلا تاليا من شباب المطربين، وأنهم الأقرب إلى مشاعر الناس فقرروا اللعب بهم بدلا من الورقة القديمة التى لم تعد تحقق رواجا فى الشارع.
تلك هى آراؤهم السياسية فى علاقتهم بالسلطة وفى كل العهود هم الأبطال وهم الثوار ولآخِر مدى ثوار ثوار