حدث ذلك منذ بضعة أعوام، تناولت العشاء مع مجموعة من الأصدقاء، فتعرفت إلى سيدة قدمت نفسها باعتبارها خبيرة فى N.G.O، وهو مصطلح يشير بالحروف الإنجليزية الأولى إلى عبارة «المنظمات غير الحكومية»، التى نسميها نحن فى مصر الجمعيات الأهلية أو منظمات المجتمع المدنى.. سألت السيدة الخبيرة عن نشاطها فقالت بزهو:
- أنا والحمد لله لدىّ من الخبرة ما يجعلنى أضع مشروع الخطة لأى جمعية أهلية بطريقة صحيحة تجعل الجهة المانحة توافق على التمويل فورا.
سألتها:
- وهل هذه جمعيات خيرية تعمل فى رعاية الفقراء والمرضى؟!
ابتسمت السيدة بثقة وقالت:
- هناك جمعيات خيرية طبعا، ولكن هناك جمعيات كثيرة هدفها نشر الديمقراطية ودعم التحول الديمقراطى، والجهات المانحة تهتم بها جداً وتمولها بسخاء.
- وما هى هذه الجهات المانحة؟!
ردت قائلة:
- الجهات المانحة كثيرة، منها مثلا الدول الغنية مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى، وهذه الدول لديها أيضا هيئات مانحة، مثل هيئة التنمية السويدية أو الأسترالية أو الأمريكية، وتوجد أيضا هيئات غير حكومية تمول المجتمع المدنى، مثل هيئة فورد أو مؤسسة فريدوم هاوس، ومؤسسات كثيرة غيرهما.
قلت لها:
- إننى أفهم أن يكون هناك تمويل خارجى للمشروعات الخيرية، مثل علاج غير القادرين وإعالة الفقراء والعاطلين، ولكن تمويل جمعيات لها أهداف سياسية مثل نشر الديمقراطية يبدو لى غريبا، ألا يعد ذلك تدخلا فى شؤون مصر وفرضا للسيطرة الغربية عليها؟!
نظرت إلىّ الخبيرة باستنكار وقالت:
- أنت تتحدث بمنطق الستينيات. لقد تغير مفهوم سيادة الدولة، كما أن العالم أصبح قرية صغيرة.. أضف إلى ذلك أن تمويل المجتمع المدنى أصبح أمرا عاديا ومقبولا.
انصرفت من العشاء وأنا أتساءل: ما الذى يجعل حكومات الاتحاد الأوروبى أو الحكومة الأمريكية تنفق ملايين الدولارات حتى يتعلم الفقراء فى إمبابة أو الصعيد الفرق بين القائمة المطلقة والنسبية فى الانتخابات؟! هل بلغ الحنان بالمسؤولين الغربيين إلى درجة تجعلهم ينفقون ملايين الدولارات من أجل تعليم المصريين قواعد الديمقراطية؟ لقد تعلمت وعملت فى الغرب سنوات، وعرفت أن الثقافة الغربية منضبطة تماما فيما يخص طريقة إنفاق المال. إذا دعاك صديق غربى إلى العشاء فيجب ألا تصطحب أحدا معك قبل أن تخبره، لأن الطعام عادة ما يكون معدا وفقا لعدد الضيوف بالضبط.. المواطن الغربى لا ينفق دولارا واحدا بغير فائدة أو ضرورة، وهو يحسب دخله ومصروفاته بدقة ويدخر من راتبه لمدة عام كامل لكى يقوم بإجازته السنوية مع أسرته، كما أن البرلمان فى أى بلد غربى يحاسب الحكومة على كل دولار تنفقه من أموال دافعى الضرائب.. كيف يحدث فجأة أن تصاب الحكومات الغربية بحالة من الكرم العجيب، فتنفق ملايين الدولارات حتى يتعلم المصريون مبادئ الديمقراطية على حسابها؟!...
هناك بالتأكيد هدف لهذا التمويل الأجنبى السخى، لأن الحكومات الغربية ليست جمعيات خيرية. نحن لا نتهم أحدا من أعضاء الجمعيات الأهلية التى تتلقى تمويلا، وكلهم مصريون وطنيون، بل إن مراكز حقوق الإنسان والمراكز الحقوقية (ومعظمها ممول) قامت بدور عظيم فى الدفاع عن حقوق المواطن المصرى وكشف الانتهاكات والجرائم التى اقترفها النظام المستبد قبل وبعد الثورة. نقدنا إذن ليس موجها إطلاقا إلى أصدقائنا فى الجمعيات الأهلية والمراكز الحقوقية..
نحن هنا نناقش المبدأ.. نفهم أن أصحاب القلوب الرحيمة يساعدون الفقراء والمرضى فى كل أنحاء العالم، ولكن لماذا تمول الحكومات الغربية جمعيات مصرية بغرض دعم الديمقراطية؟.. وكيف نصدق حرص الحكومات الغربية على تطبيق الديمقراطية فى مصر، وهى التى دعمت كل الأنظمة الاستبدادية فى العالم العربى؟!.. ولماذا يحتاج النضال من أجل الديمقراطية إلى تمويل أجنبى أساسا؟.. فى تاريخنا الحديث نماذج رائعة لحركات وأحزاب قامت بدور وطنى عظيم دون الحاجة إلى تمويل أجنبى. لقد ناضل حزب الوفد ضد استبداد الملك وقاوم الاحتلال البريطانى على مدى عقود بغير أن يتلقى جنيها واحدا من الدعم الخارجى، وكذلك فعلت حركة كفاية التى كانت أول من واجهت استبداد مبارك وطالبت برحيله، والجمعية الوطنية للتغيير التى مهدت لثورة يناير، وحملة تمرد التى التف حولها الشعب كله من أجل إسقاط حكم الإخوان، كل هذه الحركات الوطنية اعتمدت على التمويل الذاتى ولم تتلق جنيها واحدا من الخارج..
النضال من أجل الديمقراطية لا يحتاج إلى تمويل أجنبى، وهذا المال الذى ينهمر على منظمات المجتمع المدنى بغزارة ليس إلا نوعا من المال السياسى الذى يربط مصالح النشطاء بتوجهات الحكومة الغربية. لا يوجد تمويل فى العالم بلا شروط، وهذه الشروط قد تكون مكتوبة، وغالبا ما تكون مفهومة ضمناً.. بصراحة إذا كنت تعمل فى منظمة للمجتمع المدنى وتتلقى تمويلا من الحكومة الأمريكية، فهل تستطيع أن تخالف توجهات الحكومة التى تمولك؟!.. إن التمويل الأجنبى الذى يتدفق على مصر يؤدى فيها دورا سياسيا لصالح الحكومات المانحة. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها. السؤال: لماذا سكتت الحكومات المصرية على التمويل الأجنبى فلم تمنعه أو تجرمه، بل اكتفت بمراقبته..
الحق أن النظام المصرى خضع لابتزاز الحكومات الغربية التى تدافع عن التمويل الأجنبى بضراوة وتعتبر أى مساس به اعتداء على الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهكذا نجح الغرب على مدى عقود فى ترسيخ هذا المفهوم المنحرف واعتباره شيئا عاديا ومقبولا: أن تدفع حكومات وهيئات غربية ملايين الدولارات لمواطنين مصريين حتى يؤدوا دورا سياسيا محددا فى بلادهم. الغريب أن التمويل الأجنبى ممنوع تماما فى الدول الغربية ذاتها، التبرعات التى تحصل عليها الجمعيات الإسلامية الخيرية فى الولايات المتحدة وأوروبا تتم مراقبتها بصرامة حتى تتأكد الدولة أنها تنفق بالكامل فى أعمال الخير ولا تستعمل من أجل أغراض سياسية. أى مسؤول غربى يثبت أنه تلقى دعما ماليا من الخارج يحال إلى المحاكمة فورا. الرئيس الفرنسى الأسبق جاك شيراك ثارت حوله فضيحة عرفت باسم «الحقائب الأفريقية»، تم التحقيق معه فيها بعد اتهامه بتلقى أموال من رؤساء أفارقة لدعم حملته الرئاسية..
وفى نوفمبر الماضى تم التحقيق مع الرئيس الفرنسى السابق نيكولا ساركوزى لأنه متهم بتلقى دعم لحملته الرئاسية بالمخالفة للقانون. إذ يحدد القانون الفرنسى مبلغ 4600 يورو كحد أقصى للتبرع الفردى للحملة الرئاسية، بينما تم اتهام ساركوزى بأنه تلقى 150 ألف يورو من السيدة ليلان بيتنكور، صاحبة مصانع لورييال الفرنسية الشهيرة للتجميل، من أجل دعم حملته الرئاسية، التمويل الخارجى للسياسيين ممنوع فى الدول الغربية والقانون يجرمه بحسم، بينما نحن فى مصر تنهمر الأموال من الخارج على السياسيين أمام أعيننا. لقد أذاعت وسائل الإعلام، أكثر من مرة، أن النائب العام يحقق فى أن بعض مرشحى الرئاسة فى العام الماضى قد تلقوا دعما ماليا من دول أجنبية.
لكن الأمر توقف عند هذا الحد، فلم يعرف المصريون من المرشحون الممولون ومن موّلهم.. يقتضينا الإنصاف أن نذكر حقيقتين: أولاً أن شباب الثورة الذين يعملون فى منظمات تتلقى تمويلا خارجيا عددهم قليل جدا (أقل من عشرة شبان)، بينما كثيرا ما تستعمل هذه القضية لتشويه ثورة يناير كلها، وثانيا أن التمويل الأجنبى لا يقتصر على التيار المدنى، وإنما يمتد أيضا إلى تيار الإسلام السياسى، فالأحزاب الدينية تنفق أموالا طائلة على مقارها وحملاتها الانتخابية بغير أن نعرف مصدر هذه الأموال.. بعد الثورة شكل وزير العدل الأسبق، المستشار محمد الجندى، لجنة قضائية للتحقيق فى تمويل منظمات المجتمع المدنى والجمعيات الإسلامية، وكانت النتيجة مدهشة..
فقد اكتشفت اللجنة أن إحدى الجمعيات الإسلامية تلقت مبلغ 296 مليون جنيه من دولتين خليجيتين فى شهر واحد، وبسؤال المسؤولين فى الجمعية أكدوا أنهم أنفقوا 30 مليون جنيه من أجل إعالة الأيتام، بينما قالوا إنهم أنفقوا بقية المبلغ (266 مليون جنيه) فيما سموه «أغراض تنموية مختلفة»، الأمر الذى يثير الشكوك حول استعمال هذه المبالغ فى دعم الأحزاب الدينية. على الجانب الآخر اكتشفت اللجنة أن جمعية واحدة لدعم الديمقراطية تلقت وحدها مبلغ 522 ألف دولار، بينما تلقى مركز حقوقى واحد مبلغ 907 آلاف دولار، وتلقى مركز حقوقى آخر 245 ألف دولار. هذه مجرد أمثلة على مئات الجمعيات التى تتلقى التمويل الأجنبى، والغريب أن اللجنة القضائية قررت فجأة استبعاد الجمعيات الإسلامية من المراقبة وقصرت مراقبتها على منظمات المجتمع المدنى.
هذا الاستثناء للجمعيات الإسلامية من الرقابة قد يكون مفهوما فى ضوء التحالف الذى كان قائما بين المجلس العسكرى السابق والإخوان والسلفيين. فى النهاية أحالت اللجنة القضائية المتهمين بالتمويل إلى المحاكمة الشهيرة التى تم فيها تهريب المتهمين الأجانب، وصدرت الأحكام على المصريين فقط. يجب على الدولة المصرية أن تمنع التمويل الأجنبى للنشاط السياسى وتجرمه كما يحدث فى كل دول العالم المحترمة. لم يعد مقبولا أن يتلقى مواطن مصرى أموالا من حكومات غربية لكى يقوم بدور سياسى فى مصر. إن النضال الوطنى لا يحتاج إلى تمويل، وإنما يقوم على التطوع والتبرع من أبناء الشعب. وإذا قيل إن هذه المنظمات تحتاج إلى مصروفات لكى تؤدى وظيفتها فلماذا لا تطلب المساعدة من رجال الأعمال المصريين بدلا من الحكومات الغربية؟!..
لقد نزل ملايين المصريين إلى الشوارع يوم 30 يونيو من أجل إصلاح مسار الثورة، وإسقاط حكم الإخوان، وقد استجاب الجيش وانحاز لإرادة الشعب وأعلن عن خارطة طريق للتحول الديمقراطى. إذا أردنا أن نقيم دولة ديمقراطية حقيقية فيجب أن نمنع التمويل الأجنبى للنشاط السياسى بكل أشكاله، ويجب هنا ألا تخضع الدولة المصرية لابتزاز الحكومات الغربية التى تريد أن تستبقى فى أيديها أدوات تؤثر بها فى الواقع المصرى. إننا الآن نخوض معركة من أجل استقلال القرار المصرى، وبالتالى لا مجال لأى ابتزاز. إذا لم نمنع التمويل الأجنبى فإن مصر ستتحول إلى مسرح سياسى كبير نرى فيه الممثلين يؤدون أدوارهم على المسرح، بينما هناك من يحركهم من الكواليس بأمواله..
بعد هذه الثورة العظيمة يجب أن ننشئ دولة ديمقراطية حقيقية سيادتها كاملة، لا تسمح بالتدخل فى قرارها أو شؤونها، ولا تسمح بأى تمويل أجنبى لأغراض سياسية مهما كان مصدره.. الثورة مستمرة حتى تحقق أهدافها.
الديمقراطية هى الحل