كانت ثورة يناير بلا قائد.
وكان هذا نقطة ضعف كبيرة فيها، لأنها أيضا كانت بلا قيادة.
رأى كل فسل وأى نكرة أنه يتحدث باسم يناير فانتهى الأمر إلى أنها لم تحقق شيئا من أحلامها ولم تصل إلى شىء من أهدافها بل تعطلت وركبها الإخوان وسرقها لصوص الثورات.
الآن هل لثورة ٣٠ يونيو قائد؟
لا أظن، بل حالها من حال يناير بلا قائد لكن الفارق أن الشعب هو مفجِّرها وليست القوى السياسية، وأن الشعب هو المتحدث باسمها وليست مجموعة شباب لا يعى أن الثورة وسيلة لا غاية وأن الشعب هو الذى قرر أن يتعامل مع الفريق أول عبد الفتاح السيسى باعتباره رمزا للثورة فهو حاميها وناصرها، ومن هنا التشبيه المعتمَد للسيسى بعبد الناصر.
نقطة هنا، وانتقل معى إلى أول السطر.
أبسط قواعد الديمقراطية أن المرشح للرئاسة هو الذى يقدم نفسه للناس الذين يختارون بين أكثر من مرشح مَن يَروْنه الأصلح أو الأجدر بعد حملة انتخابية حرة، لكن فى مصر كل شىء مقلوب والبلد كله من كباره إلى صغاره يفكرون عكس المنطق السياسى الطبيعى ويمشون فى الطريق العكسى فيطرحون هم أسماء ولا ينتظرون مَن سيقدم نفسه، لكن هذه الأجواء كلها تعود بنا إلى واقعة غريبة حكاها عملاق الصحافة العربية محمد حسنين هيكل للأديب الكبير الرائع يوسف القعيد فى كتاب الأخير «عبد الناصر والمثقفون والثقافة» وتابِعْ معى ما قاله، ثم نتأمله معًا.
سأل القعيد الأستاذ هيكل: ما حكاية عرض جمال عبد الناصر على «لطفى السيد» رئاسة مصر من خلالك (لطفى السيد مفكر ليبرالى مرموق بل يكاد يكون مؤسس الليبرالية المصرية، وكان لقبه أستاذ الجيل، وكان زعيما حزبيا وبرلمانيا قبل الثورة، وكذلك رئيسا رائدا لجامعة القاهرة ومجمع اللغة العربية).
أجاب هيكل: كان الهدف النهائى هو الديمقراطية، ولهذا كان البحث موجَّها إلى رمز لها يطمئن إليه الجميع. فى هذا الوقت طلب منى جمال عبد الناصر إلى أحمد لطفى السيد، وربما يكون قد أرسل إليه بواسطة أخرى وأنا لست متأكدا من هذه النقطة، ولكننى أنا الذى ذهبت إليه برسالة من جمال عبد الناصر. أنا ذهبت إلى لطفى السيد فى بيته فى أواخر 1954 وأوائل 1955، هذه اللحظة كان محمد نجيب على وشك الخروج من السلطة، وكان عند لطفى السيد غرفة مكتب تعلوها قبة كبيرة. قلت للطفى السيد «أنا قادم لك برسالة».. كان آخر منصب له هو وزير خارجية صدقى واستقال منه وقت مفاوضات «صدقى - بيفين»، كان عضوا فى وفد المفاوضات الذى شكله صدقى للتفاوض.. أنا نقلت إليه الرسالة، وإن كنت لا أذكر الكلمات والألفاظ التى استخدمتها بالضبط، ولكن نقلت له اقتراح جمال عبد الناصر بأن يتولى رئاسة الجمهورية.. الحقيقة أنه كان واضحا جدا، قال لى: كل واحد يتصدى لعمل عام ينبغى أن يبقى لتحمل مسؤوليته، أنا رجل فى نهاية عمرى، ليست عندى الصحة للدخول فى عمل جديد وتجربة جديدة تبدأ الآن بالكاد.
يسأل القعيد: ألم يطلب فرصة للدراسة والتفكير؟ ويجيب هيكل: كان رده فوريا، وفى الجلسة نفسها قال لى بابتسامة ظريفة: أنا بدأت عمرى بتجربة دخلنا فيها كلنا، وأنا الآن فى أواخر عمرى ولا أستطيع أن أتصور نفسى بادئا وداخلا فى تجربة جديدة، هذا أولا، أما ثانيا، إن كل إنسان نهض بمسؤولية عمل عام، عنده هو وليس عند غيره تصور كيف يكملها.
بمَ تفصح هذه الواقعة التى حكاها هيكل؟
أولا: أننا منذ يوليو نبحث للناس عن رئيس ولا نطلب من الناس أن يترشح منهم رئيس وينتخبوه بإرادتهم وباختيارهم..
ثانيا: أن جمال عبد الناصر عندما فكر فى من يصلح لرئاسة مصر، فكَّر فى شخص غيره، ومن ثم لم يكن هذا الزعيم الذى قام بثورة يعتقد راسخا أنه لا أحد يصلح غيره.
ثالثا: أنه اختار مثقفا ومفكرا مرموقا ورجل سياسة ودولة يملك خبرة القيادة.
رابعا: من المؤكد أن عرض عبد الناصر يعنى دعما لهذا المرشح بكل ما تملكه ثورة يوليو وقتها وعبد الناصر من جماهيرية وشعبية ومصداقية.
لم ينجح العرض ورفض لطفى السيد وجرى ما جرى. لكن السؤال الآن: هل تملك ثورة يونيو ما ملكته ثورة يوليو؟
يقولون إن السيسى هو عبد الناصر، كويس جدًّا، هل لدينا إذن أحمد لطفى السيد؟