ثلاثون عاما وكلما تذكرتُ هذا الفتى تُصيبنى الدهشة. أنا الذى شاب فوداه فى سراديب البحث الجنائى. وقالوا عنى إن غريزتى لا تُخطئ! هل كان هذا الفتى مجرد قاتل مجنون، أم مراهقا يتمتع بقدرات تنبؤية خارقة؟
كنت فى النوبتجية بالقسم أمارس عملى المعتاد. حينما دخل فتى نحيف القوام، أقرب إلى القصر، ثائر الشعر، حائر النظرات. اقترب فى خطوات مترددة من مكتبى، وقال لى: «أظن أن أبى مات مقتولا».
رددت كلماته مستغربا «أظن!!»، فتابع أنه مات ضربا. قال فى حماس: «فتك به بلطجية مجهولون وشجّوا رأسه». كان من المفروض أن أكتب أقواله فى محضر، لكن شيئا غامضا دفعنى للذهاب معه إلى بيته للتأكد من الأمر أولا.
ذهبنا معا إلى منزله المتواضع. الشقة فى الطابق الثالث. البناية متهالكة والدرج متآكل. طلبت منه أن يطرق الباب، فحدث أغرب شىء فى العالم. خرج والده متسائلا متعجبا، وحين شرحت له ما قاله ولده للتو سحبه فى عنف إلى الداخل وأوسعه ضربا.
استدرتُ عائدا إلى القسم شاعرا بالخزى. رحت أستعيد ملامح الأب القاسية وأتساءل عن علاقته بابنه، وما الذى دفعه لاختلاق هذه الكذبة! انتهت النوبتجية فعدتُ إلى منزلى، والمدهش أننى شاهدت الأب مقتولا مهشم الرأس فى أحلامى. عندما عدتُ إلى القسم بعد العصر عرفتُ أن الجريمة حدثت وقُتل الأب قبيل الظهر.
ذهبت لمعاينة الجثة. رحت أتأمل ملامحه القاسية التى خامرها استسلام عجيب، وشاهدت شجاً عميقاً فى رأسه. وجاءنى ابنه المراهق وهو يرتعد. وفجأة أمطرت عيناه بالدموع، فشعرتُ أن الفتى ليس على ما يرام، وتحرك فى قلبى دافع الشفقة. كانت هناك معضلة يجب أن يفسرها: كيف عرف بمقتل أبيه قبل حدوثه؟ فى البدء، حاول أن يراوغنى. بعد كثير من الإنكار والبكاء اعترف - وكأنه يزيح عبئا رهيبا عن كاهله - بأنه رأى والده مقتولا قبل أن يموت بيوم، فتوقع أن يحدث ذلك فى اليوم التالى. فلما أبديت دهشتى قال منهاراً إنها ليست أول مرة، بل حدث قبلها أن شاهد زميله فى المدرسة مدهوسا تحت عجلات شاحنة وهو جالس فى الصفّ، وبالفعل مات بالطريقة نفسها فى اليوم التالى.
مزاعم تتحدى أى منطق ويصعب إثباتها فى المحررات الرسمية، لذلك كان يجب أن أبحث فى اتجاه آخر. التحريات أثبتت أن زميل الفتى قد مات بالفعل بعد مشاجرة بينهما، وأن والده كان يجلده ويعامله بقسوة غير عادية.
فى المساء، اكتملت الفكرة. باغتُّه بأننى أعلم كل شىء. الجلد والضرب والطرد من البيت. ثم قلت بشكل عارض: «ألهذا قتلته؟».
ثم أجهزت عليه حين اتهمته بدفع زميله تحت الشاحنة. التمعت فى عينيه نظرة مجنونة. ثم ضحك فى هيستيريا وكأن الأمر لا يخصه. قال إنه رأى نفسه بالأمس مشنوقا بحبل، معلقا على حائط. استدعيته فى الصباح التالى محاولا الحصول على اعتراف. لكنه لم يأت مرة أخرى، لأنهم وجدوه مشنوقا فى الصباح التالى.
هل قتل هؤلاء وانتحر بعد افتضاح أمره، أم كان يتمتع بقدرات غير عادية تجعله يرى المستقبل؟! أحيانا أنحاز إلى الاختيار الأول وأحيانا أنحاز إلى الاختيار الثانى، لكننى أعرف أننى لن أعلم الحقيقة علم اليقين أبداً.