بعد أن كان يوزع صكوك الجنة على منصة رابعة، لم يعد لدى البلتاجى إلا ابتسامة تلخص وضعها بين الماسأة والمرض العقلى.
البلتاجى أمير المنصة، والميكروفون، والكاميرا، فقد كل أسلحته، وأصبح وحيدا فى مصيدة الأمن داخل مدرعة، يرفع فيها الضباط والعساكر علامة النصر، وهو يحاول بكل ما تبقى له من عصبية أن يرفع العلامة البائسة.
أصبحت العلامة تشبه علامات محفورة على شىء انتهى، مثل شواهد القبور أو حفر كلمة للذكرى الخالدة على ما لم يعد له من الخلود سوى هذه الخربشة على الحائط.
البلتاجى لم يكن له فى التنظيم إلا أعصابه التى تنتفخ، وعضلات وجهه المحتقنة دائما، لا قوة تنظيم ولا تأثير سوى الهوس.
والهوس على المنصة غير الهوس فى المدرعة.
الهوس الذى يتصور أنه سيحرك الجموع، غير الهوس المحاصر الآن فى مدرعة وتنتظره الزنزانة وسط زغاريد وصيحات من كان بالنسبة لهم «زعيم الرعب» الكامن فى رابعة.
والبلتاجى أعجبته اللعبة، واستخدمها بكل ما يملك من أداء الأدوار، بصباغة شعره وشاربه، وحتى الضغط على الحروف لتبدو الكلمات صادقة.
هو رسول الجماعة إلى الميادين. أرسلته الجماعة فى 25 يناير لكى لا يعتقد الأمن أن التنظيم فى الميدان، وظل مسؤولا عن إدارة المجموعات الإخوانية، شريكة الميدان لا الثورة، حتى صدرت له الأوامر ليلة الاجتماع/ الاتفاق/ الصفقة، مع عمر سليمان، فصدرت له الأوامر بالانسحاب التدريجى.
وفى ساعات متأخرة من ليلة الانسحاب كان البلتاجى وابتسامته معا فى الميدان، حتى فوجئ بالسؤال عن الانسحاب فكانت الإجابة: «هو موش انسحاب..» ولم يصف ماذا يحدث.. لكنه أكمل الإجابة بشىء آخر تماما: «.. لكن احنا يبدو موش هانهزم النظام بالضربة القاضية فلنرضَ بالفوز بالنقاط».
يومها نشرنا عن الانسحاب وتبريرات البلتاجى، دون ابتسامته طبعا، على «تويتر»، واضطر الإخوان إلى إثبات أنهم لم ينسحبوا حسب الصفقة مع عمر سليمان، وأنزلوا أحد قادتهم الفعليين حمدى حسن إلى الميدان ليطلق تصريحات تؤكد استمرارهم.
البلتاجى مسكين لأن دوره يتعلق بالهوس، فهو تجسيد للصورة التى يخفونها داخلهم، وهذا سر معاركه مع نخنوخ، ومن يشبهه.
البلتاجى حالة عقلية، أو هو التجسيد لما وصلت إليه دراسة حديثة فى جامعة أكسفورد، للباحثة البريطانية كاتلين تايلور، ترى التطرف الدينى، أو العقائدى بشكل عام «مرض عقلى يمكن الشفاء منه».
صورته بالجلباب وقد انفكت الملامح تماما، بعد إدراك أن الدور انتهى، ولم يبق إلا الهوس الأخير ورفع علامة الأصابع الأربعة بالهيستيريا المناسبة للحظة.. تلك العلامة التى كتبت عنها من قبل أنها قادمة من خيال خارجهم، حيث اخترعها أردوغان، للإشارة إلى رابعة العدوية. المقر الأخير لجسد متخيل: مستعمرة المجاهدين، أرض الملائكة، آخر قبيلة مدافعة عن الإسلام.
رومانتيكية تليق بخيال آخر سلالة تنظيم «الحشاشين» حيث الوعود الساحرة بأنك قاتل، وضحية ستضيف إلى مملكة السماء أرضا. و«رابعة» بعد أن فشلت فى نشر الرعب لم يبق لها إلا أن تكون أرض المذبحة، واختاروا اللون الأصفر ليعبر عن الغدر بينما يظهر سواد الأصابع حضورا ثقيلا وقديما وغامضا.. لأنها لا تعبر عن حالة، مثل علامة النصر بالإصبعين، أو تدعو إلى فعل، كما تفعل القبضة المضمومة فى طلب القوة بالتوحد. أصابع أردوغان لم تفعل سوى محاولة تخليد المكان، والرواية الإخوانية عنه. شعار مغلق يرتبط بتنظيم يعيش لحظات الهزيمة.
الشعار يشبه الركاكة التى كانت جامعة فى «رابعة»، فالاعتصام الذى كان من الممكن أن يكون سلميا، ويستمد القوة من هذه السلمية، أصبح مسلحا بما يفقده الندية الحربية على الأقل، فهل تصوروا أنهم سيواجهون جيشا، ودولة، وشعبا بهذه البنادق وأنابيب الغاز التى تنفجر فى حامليها؟
وهل تصوروا أن خطابات الحرب/ الكراهية/ العنف المقدس ستنتصر ببروباجندا يصنعها مثل صفوت حجازى «شيخ، داعية من دعاة الطبقات المخملية الذى وجد وجهه الآخر بعد اقتراب الإسلاميين من السلطة».
الركاكة كشفت الخرافة، فالتنظيم يستمد خياله الآن من خارجه «أردوغان يطلق الشعار وحماس تستخدمه فى استعراض جيش القسام بسيارات الدفع الرباعى ومدافع لم تعد تستخدم»، والاعتصام خارج السيطرة «تسليح وحرب فى انتظار إنقاذ الحليف الدولى..».
ماذا بقى من التنظيم غير الأصابع الأربعة «التى قد تعنى كنا هنا أو هناك..»؟