دخلنى حزن كبير، وكتم بغلظته على فؤادى، هل هذه هى القاهرة الساهرة الساحرة؟! المدينة شبه مهجورة مجروحة منطوية على نفسها.. كنت أتجول بها بعد العاشرة مساء قادمًا من مدينة الإنتاج الإعلامى، يا لله أين رحلت المدينة التى لا تنام؟!
قد يكون نومها المبكرة ضروريا لوأد أعمال عنف يمارسها بعض الأخوان ويسمونها «سلمية سلمية»، كما لو أنهم فى حفل تنكرى.. لكنه نوم كئيب.
كنا فى مساء جمعة الحسم، وكالعادة مظاهرات عيونها صفراء، ومحاولات لتكسير الحظر فى المهندسين ومناطق أخرى قابلتها السلطات بحزم، واشتباكات فى الغربية والبحيرة ودمياط، ثم الهدوء والخواء.. دون حسم!
ما الذى يريده الإخوان منا؟!
ما اللذة فى حكم شعب ضد إرادته؟! ولماذا خرج بعضهم هاتفا: «النهاردة العصر، أمريكا حتحرر مصر»؟! تحررها ممن؟! من جيشها وشعبها وشرطتها؟!
لكن السؤال الذى ضرب دماغى بعنف: لماذا لم يستفد الإخوان من تجارب صدامهم مع الدولة عبر تاريخهم كله؟!
نعم، فالصدام أبدا لم يكن مع المؤسسة العسكرية أو مع العسكر كما يقولون، فأول صدام كان فى عهد إبراهيم عبد الهادى باشا قبل ثورة يوليو بثلاثة أعوام عقب اغتيالهم محمود فهمى النقراشى، ولم تكن المؤسسة العسكرية فى الصورة على الإطلاق، وقد انتهى الصدام بخسائر فادحة للجماعة: سجون وانقسامات واستقالات وحل.
ثم وقع الصدام الثانى مع دولة يوليو فى عام ١٩٥٤، وكان صراعًا شرسًا على السلطة، وتكررت الخسارة، ثم فى عام ١٩٦٥ فى ما عرف باسم المؤامرة الكبرى، وتماثلت فى النتائج، وها هم يكررون الصدام ليس مع الدولة ولا السلطة، إنما مع المجتمع أيضا، ويمضون بسرعة البرق إلى نفس النهايات المؤلمة، لكن الخسارة ستكون أفدح!
لماذا لم يتعلموا الدرس؟! أين المرض العضال؟!
ببساطة فى عقل قيادات الجماعة، فهم يزعمون لأعضائها أن كل الكوارث التى تحل بهم، ما هى إلا ابتلاء من السماء واختبار من الله لكشف مدى ثباتهم على المبدأ والتمسك بالحق فى زمن يعد القابض فيه على الحق كالقابض على الجمر، وأن الله قد اصطفاهم ليكونوا حراس العقيدة، الصابرين المتحملين لكل ما يحيق بهم، كما صبر المسلمون الأوائل على الابتلاء الذى لاقوه على يد قريش لنصرة الإسلام فى مهده الأول!
وهذه الرؤية تعوق الجماعة عن أى مراجعات فكرية ونفسية ومعرفية لهم، وهل يراجع الحق نفسه؟!
لكن أخطر ما تصنعه الجماعة فينا هو استعداء الأمن، ليعود إلى أساليب قديمة نعمل على التخلص منها، وهم فعلا يستفزون الأمن ويدفعونه دفعًا، وهم يراهنون على أن هذه الممارسات سوف تثير المخاوف فى أفئدة المواطنين، خصوصًا الأجيال الجديدة، وقد تغير المواقف الشعبية من الجماعة.
وقد نجح الإخوان نجاحًا هامشيًّا حتى الآن، خصوصًا أن جزءًا كبيرًا من الطابور الخامس، الرافض لاستقرار مصر، المنحاز إلى الرؤية الأمريكية للأزمة، راح بالفعل يبث سموما على شبكة الإنترنت وفى بعض مقالات الصحف: هل تريدون عودة مباحث أمن الدولة؟! ريما تعود إلى عاداتهم القديمة فى الاعتقالات العشوائية! الشرطة تفصح عن وجهها القبيح.. وهكذا.
وهنا الشفافية فرض عين على الأحداث التى تجرى على الساحة المصرية من قرارات قبض، تحقيقات نيابة، أدلة اتهام، وإذا اعتقل الأمن مواطنًا فيجب أن يعلن مبرراته على الرأى العام ومدته.. إلخ.
وهنا نطلق سؤالًا مهمًا: هل يمكن أن نهجر أساليب الماضى الخبيثة، مثل قضية خيانة الأمانة المرفوعة ضد الدكتور محمد البرادعى؟!
وكان البعض قد أعلن امتعاضه الشديد من تحديد جلسة محاكمة بهذه السرعة لقضية وهمية!
وعموما، أى مواطن يمكن أن يرفع قضية مباشرة ولو ملفقة على أى شخص آخر، وفى هذه الحالة تحدد المحكمة جلسة لنظرها، وليس هذا اعترافًا بصحة القضية، إنما بحق التقاضى!
لكن البعض تمادى فى أساليب الماضى الخبيثة وقدم بلاغات إلى النائب العام، متهمًا عددا من المصريين المعروفين سياسيًّا، بالخيانة، ويحق للنائب العام نظرها أو حفظها حسب تقديره لمدى جدية البلاغ، وأتصور أن النائب العام سيحفظ هذه البلاغات، فالخيانة تهمة من دولة وليس بلاغًا من فرد، ولا يجوز أن يكون الدليل كلامًا إنشائيًّا عامًا وبلاغيًّا يدغدغ مشاعر الناس، والدولة هى صاحبة الادعاء فى هذا النوع من القضايا بما تملكه من أدوات إثبات، لكن الأفراد لا يملكون هذه الأدوات، وهذه الاتهامات تشبه بلاغات المحامين التابعين للإخوان إبان حكم مرسى ضد قيادات جبهة الإنقاذ تمامًا!
فهل يمكن أن نكف عن هذا الماضى الخبيث ونتلفت إلى المستقبل بجدية، حتى تودع القاهرة كآبتها وتعود إلى سحرها وسهرها وصخبها؟!