قال الإعلامى الكبير حمدى قنديل إنه مستعد لتقديم برنامج يومى لمدة ربع ساعة مجانا على شاشة التليفزيون المصرى، ولكن لا حياة لمن تنادى، فلم تتصل به وزيرة الإعلام د.درية شرف الدين، ولا عصام الأمير رئيس الاتحاد، ولا حتى أصغر موظف فى ماسبيرو، كأن من طلب ذلك مذيع ناشئ يبحث عن فرصة للظهور.
بالمناسبة لا أتصور أن القطاع الخاص المصرى يرحب هو أيضا الآن بحمدى قنديل، أرى فى الأفق اتجاها لكى يعزف الجميع نغمة واحدة ولا مجال لأى إضافة حتى ولو كانت تنويعة على اللحن الأساسى.
فى اللحظة التى يعيش فيها الوطن مهددا فى أمنه القومى، سوف تكثر مثل هذه الدعاوى والشعبطة على كتف ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطانى ومقولته التى صارت كليشيه «عندما يتهدد الأمن القومى فى بلادى ليس من حق أحد الحديث عن حقوق الإنسان»، أصبحت صكا مفتوحا لانتهاك حقوق المواطنين حتى حقهم فى الاختلاف الفكرى مع النظام صار مُجرَّمًا.
ما أعلمه مثلا أن قنديل متوافق سياسيا ومؤيد لثورة 30 يونيو ورافض لموقف البرادعى قبل وبعد استقالته، كما أنه بعد تولى الرئيس المعزول بشهر واحد كان هو صاحب الصوت الأعلى فى إعلان الغضب ضد أخونة الدولة، ورفض أن يتولى حقيبة الإعلام فى أثناء حُكم مرسى.
هذا المقال ليس من أجل الدفاع عن حق حمدى قنديل فى الوجود عبر نافذة إعلامية ومن حقك أن تختلف معه، أو تراه معبرا عن مرحلة زمنية سابقة كان يقف فى أول صفوف المعارضة لنظام مبارك، بينما الإيقاع تغير بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو، ولهذا فإن هناك نبضا مختلفا يخلق بالضرورة جيلا آخر، هذه بالتأكيد آراء لها وجاهتها ولكن لا شك أن هناك أيضا من الإعلاميين الكبار من لديهم القدرة على اللحاق بالزمن وبمفرداته، وحمدى لا شك من بينهم.
أصبحت أخشى من أن تخفت الأصوات التى بطبعها تعبر فقط عن قناعاتها وقد تغرد مرة داخل السرب ونراها بعد ذلك مغردة بعيدة عنه، هذه الأصوات يبدو أن كل القنوات الرسمية والخاصة فى تلك اللحظة الراهنة متفقة تماما على إبعادها. الموقف الراديكالى المتطرف فقط هو الذى يحتل الآن كل المساحة، مهما كان تأييدك لـ30 يونيو فإن هذا لا يكفى المطلوب أن تغنى بصوت عال «تسلم الأيادى».
أشعر أن ما نراه الآن عابرا سيصبح هو السائد، وأن هناك أصواتا كنا ننتظرها وهى تدافع عن الحق فى حرية الاختلاف ستصبح هى الغطاء الشرعى الذى من خلاله يتم اغتيال حرية الاختلاف.
قدر مصر قاس وصعب، منذ ثورة 25 يناير وهى تمشى على الأشواك وقبل أن تضمد جراحها تواصل السير على أشواك أشد ضراوة، ولهذا صارت أصوات المنع والمصادرة وإزاحة الآخر هى فقط المسموعة.
مؤخرا كان درس شيخ الأزهر الجليل د.أحمد الطيب وفى عز شحنات الغضب ضد تركيا، عندما اجتمع مع الطلبة الأتراك الذين يدرسون فى الأزهر الشريف وقال لهم إنهم مرحب بهم، وإنه لا يمكن لأحد أن يمس حقهم داخل مظلة الأزهر، نال الشيخ هجوما قاسيا وسافرا من رجب طيب أردوغان، وبدأ الكل يرفع شعار المقاطعة حتى وزارة الثقافة المصرية بل مهرجان القاهرة السينمائى، وبرغم تأجيل الدورة هذا العام فإن رئيس المهرجان قال لن نعرض أفلاما تركية أو إيرانية، سقف المقاطعة والمصادرة لن يبقى على شىء.
نعيش فى لحظة تحمل بداخلها قنابل عنقودية من الشك، ولهذا أخشى أن نكرر ما كان يعرف فى الخمسينيات فى أتون الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا بالمكارثية، نسبة إلى السيناتور جوزيف مكارثى، وكان الخوف يسيطر على الجميع من الكتلة الشيوعية وأصبح المثقف إذا لم يبد حماسا منقطع النظير لكل ما يصدر عن الدولة الأمريكية من قرارات صار عرضة للاتهام على الفور بأنه شيوعى، ولم يسلم من الملاحقة الجنائية حتى شارلى شابلن، كان هذا ممكنا فى الماضى، ولكن بعد مُضىّ أكثر من ستين عاما ومع تعدد قنوات التواصل الاجتماعى والفضائيات، صار من المستحيل أن لا نقبل بتعدد الأصوات، وأن نخشى حتى ممن يغردون داخل السرب أن يغردوا ولو مرة واحدة خارج السرب.