كيف ينتهى الأمر كذلك بين ليلة وضحاها؟ هى تجربة جديدة بالنسبة لى بكل المقاييس تتراوح ما بين الصدمة والذهول وغصة القلب، وذلك منذ أن قررت أن أستقيل من مهمتى التطوعية على مدى العام الماضى كمتحدث إعلامى باسم جبهة الإنقاذ، وانتقدت الطريقة التى تم بها فض اعتصامى رابعة والنهضة وسقوط مئات القتلى لما ذلك من توابع خطيرة لن تسمح بعودة الاستقرار لمصر فى وقت قريب.
أعرف جيدا، ومن واقع التعامل اليومى المباشر كصحفى على مدى السنوات الخمسة والعشرين الماضية كلها فى عهد المخلوع حسنى مبارك طبعًا، مدى قدرة الأجهزة الأمنية المتجذرة على شن حملات التشويه المتعمد والمنظم وترويج اتهامات العمالة والخيانة. لا شىء جديد. ما يجعلنى أفقد القدرة على النطق، فعلا وليس تشبيها، هو أن تأتى الطعنات فى هذه الحالة من أصدقاء مقربين وزملاء مهنة أعتز بالانتماء إليها.
زميلة، جمعنا العمل فى المجال الصحفى منذ سنوات طويلة، أجرت حوارًا على شاشة إحدى قنوات التليفزيون مع مخرج سينمائى كان فى مقدمة مشهد اعتصام وزارة الثقافة قبل شهر من سقوط الرئيس السابق محمد مرسى. وكنت ألتقى المخرج المحترم يوميًّا، وأنسق معه كيف يمكن لجبهة الإنقاذ أن تدعم الاعتصام، خصوصًا أنه نظرا لوجودى اليومى هناك أصابنى من الإخوان عدة بلاغات فى أقسام الشرطة مع آخرين بالتحريض على العنف ومهاجمة مناصرى الجماعة عندما تظاهروا فى نفس المكان.
كنت ضيفًا يوميًّا فى هذه القناة التى استحقت بالفعل لقب «قناة ثورة 25 يناير»، وبها بعض أكثر الزملاء صلابة وصدقا وموضوعية. لكن نحن الآن فى حالة حرب، وفقًا للزميلة. وبالتالى كل شىء مباح بلا حساب. فى الحوار التليفزيونى، قال نفس الأستاذ المخرج السينمائى لا فض فوه: «اللى أعرفه إن خالد داوود إخوانى.» زميلتى المذيعة المحترمة التى، ويا للمصادفة، كنت ألتقيها بشكل منتظم من خلال عملنا المشترك فى اللجنة الإعلامية لجبهة الإنقاذ، عملت نفسها مش واخدة بالها، وقالت بصوت خافت غير معتاد وسط محاضرات التربية الوطنية الزاعقة التى تمطرنا بها يوميا وكأنه عقاب من السماء: «اللى أعرفه أنه صحفى فى الأهرام. بس بينفذ الأجندة الأمريكية». فنظر لها المخرج المحترم، وكأنه يمتلك جهاز مخابرات خاصًا وأجهزة تنصت من تلك التى كشف عنها الشاب الأمريكى الهارب الآن إلى موسكو، ادوارد سنودن: «بأقولك إخوانى».
إذن إما إخوانى أو عميل أمريكى. يعنى سجن ولا شنق؟ أصدقائى المقربون الرحماء القلوب، أرادوا أن ينفوا عنى صفة العمالة والإخونة، وردوا بأنهم يعرفوننى منذ زمن، وأننى أنتمى (وبصراحة أفتخر) لتيار اليسار المصرى منذ سنوات الجامعة فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى. لكنهم عزوا انتقادى للعدد الكبير من القتلى الذين سقطوا فى فض اعتصامى رابعة والنهضة، ورفضى السكوت عن مأساة قتل 36 شابًا مصريًّا لقوا مصرعهم خنقًا بالغاز فى سجن أبو زعبل، وانتقادى للمعالم الواضحة للعودة القوية للدولة الأمنية القمعية المباركية، عزوا ذلك إلى انتمائى إلى فئة «الحكوكيين» من ضعاف القلوب وأصحاب النظرة المخملية الأوروبية التى لا تنطبق على واقعنا المصرى حيث نخوض الآن «حربًا فى مواجهة جماعة ظلامية إرهابية».
من يعتقد أن الإخوان يمكن سحقهم وإبادتهم هو القادم من عالم آخر، ويرفض التعلم من دروس التاريخ، وانحرفت بوصلته عن أهداف ثورة 25 يناير، التى كان فى قمة مطالبها العيش والحرية والكرامة الإنسانية. كنا نقول إن الشعب ثار لتدهور أحواله المعيشية وتفشى الفساد ومخطط التوريث، لكننا ثرنا كذلك لتأكيد كرامتنا الإنسانية، وأننا نرفض القهر والقمع وتكميم الأفواه وطقوس النفاق والتطبيل للحكام. الثورة تتم عندما تختفى تلك المقالات التى تشيد بالقائد المفدى وحكمته وروعته بلهجة فجة لا ترضى سوى الإمبراطور العارى من الثياب.
كلنا ضحايا سنوات القمع المباركى الثلاثينية، من كل الأطياف السياسية. وعندما خرج غالبية المصريين، بكل تنوعاتهم، فى 30 يونيو للمطالبة برحيل مرسى، فكان ذلك لأننا تيقنا أنه لم يأتِ لتحقيق مطلب إعادة هيكلة مؤسسات الدولة القمعية الأمنية أو العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية، بل أراد استخدام نفس هذه المؤسسات العتيقة لخدمة الإخوان ومصلحتهم فقط. لكن لو كان الهدف مصلحة الوطن على المدى البعيد، فأى عاقل سيعرف أن البديل الوحيد هو المصالحة الوطنية، لأنها فقط ستسمح باستعادة الأمن والانطلاق نحو إعادة بناء اقتصادنا وتحسين معيشة الغالبية من المصريين الفقراء، وهذا هو ما نصت عليه خريطة الطريق فى 3 يوليو، وليس الانتقام.
ما زلنا نتصارع لأن مخاض الثورة التى بدأت فى 25 يناير لم ينته بعد، ويبدو أنه مخاض مؤلم وسيتواصل عدة سنوات، ولم ينته بانتهاء أيام الثورة الثمانية عشر الحلم الجميل. حتى الآن يتواصل التغيير فى الأشخاص لا فى السياسات. رحل مبارك وجاء المجلس العسكرى ثم مرسى، ولا تزال الأوضاع تزداد سوءًا. قد ندور دورة كاملة ويظن أنصار النظام القديم أنهم تمكنوا ثانية، لكن ذلك لن يعنى استقرار الأوضاع.
لا بديل عن التمسك بالأهداف التى حددها شعب مصر وأطلقها شبابها وفتياتها فى 25 يناير، وهم صرخوا «الشعب يريد إسقاط النظام» وليس فقط الأشخاص. الإخوان أرادوا سرقة الثورة للتمكين وخدمة أحلامهم، فخرج الشعب وأطاح بهم نتيجة أخطائهم الجسيمة قبل أى شىء آخر. لا تستهينوا بتمسك شباب مصر بثورتهم.