أشعر بغضب واشمئزاز شديدين كلما تذكرت حادثة خنق وقتل 37 مسجونا كلهم عزل ولا حول لهم ولا قوة، بينما كانوا قابعين فى جوف سيارة ترحيل نقلتهم إلى باحة سجن أبى زعبل، غير أن ضابط شرطة غير منضبط قرر فجأة «ولسبب مجهول حتى الآن» التخلى عن أصول وشرف مهنته واستجاب بطيش وتهور لانفعالاته واستسلم على ما يبدو لمشاعر انتقام بدائية، دفعته إلى أن يأمر جنوده بإطلاق قنبلة غاز مسيل للدموع داخل صندوق السيارة المغلق والمتخم بأجساد هؤلاء البشر.. مع أن هذا الصندوق هو أصلا قطعة من الجحيم ولا يصلح لحمل ونقل مواشى لا آدميين.
إنها جريمة مروعة ومشينة بكل المقاييس والمعايير القانونية والأخلاقية، ولعل العبد لله كاتب هذه السطور واحد من أولَى الناس باستنكارها وإدانتها من دون تحفظ ولا مواربة.. لماذا؟ لسببين اثنين، أولهما أننى ممن جربوا بدل المرة عشرات المرات، معاناة الانحشار فى هذا الصندوق الشيطانى الذى ما زال يستخدم فى شحن ونقل خلق الله المساجين المساكين، ومن ثم فإننى ممن يعرفون حجم المهانة ومقدار العذاب اللذين يكابدهما كل من يسوقه حظه السيئ إلى جوفه المظلم المخيف.
فأما السبب الثانى والأهم، فهو إيمانى العميق «أظننى كتبت عنه ألف مرة من قبل» أن تفوقنا الأخلاقى على جماعة الشر الفاشية العميلة وتوابعها من شراذم وعصابات القتلة الإرهابيين وأعداء الحياة، هى أقوى وأمضَى سلاح لهزيمتها ودحرها والخلاص من عارها وخطرها الداهم على دولتنا ومجتمعنا، وعليه فلا يجب أبدا ولا يصح إطلاقا أن نترك الدولة وأجهزتها الأمنية والشرطية تهبط من عليائها وهى تمارس واجب حماية الشعب والدفاع عن كيان البلد إلى مستنقع الاستخفاف بأحكام القانون وروادعه، وتنخرط فى عملية تقليد واستعارة لأساليب وارتكابات هذه الشراذم والعصابات والرد على جرائمها بجرائم أخرى، بما يصنع فى نهاية المطاف صورة كئيبة ومؤذية جدا تتبدى دولتنا العتيدة كأنها استجابت لغواية تحويل المعركة ضد الفاشية والإجرام والإرهاب إلى سباق أو «مباراة» فوضوية ودموية بين عصابتين يفوز فيها الأكثر توحشا والأشد نفورا وانفلاتا من قيود الأخلاق والقانون، وهو أمر لو حدث -لا قدر الله- فإن هذه العصابات الإجرامية وأسيادها فى عواصم الغرب، تكون قد نجحت فى تنفيذ جوهر المؤامرة وحققت بالفعل أهم أغراضها الخبيثة وأهدافها الملعونة، أى الحيلولة بيننا وبين حقنا المشروع فى بناء وطن جديد ناهض ومتقدم ينعم أهله بديمقراطية حقيقية تحميها وتظللها دولة القانون، التى هى بدورها أقوى الضمانات لأن يعيش الناس فى مجتمعهم أحرارا كراما لا يخافون من قهر أو ظلم أو عسف وتمييز.
باختصار، جريمة قتل مساجين عزل لا يمكن تبريرها بأى ذريعة، ولا يجب أن تمر من دون تقديم المسؤول عنها مهما كان موقعه أو منصبه، إلى العدالة لكى تُنزل عليه العقاب الرادع الذى يستحقه.
إن إقامة العدل الناجز وعدم التسامح مع الجانى فى هذه الواقعة الخطيرة سوف يبعث للكافة برسالتين متفوقتين فى الأهمية، أولاهما أن الدولة المصرية تحترم قيم عليا ومبادئ راقية سامية لا يحفل بها الإرهابيون والفاشيون بل يكرهونها، والثانية أن هذه الدولة عازمة ومصرة على أن تحمى كيانها وتدافع عن شعبها ضد عصابات الخيانة والإجرام مستعينة بقوة القانون والأخلاق فحسب.
صباح الخير.