استفاضت فروع عدة من العلوم الإنسانية فى الحديث عن (الصور الذهنية) من حيث تعريفاتها ونماذجها، الحادث منها والنمطى، وقدمت شروحاً عميقة عن العناصر الأساسية لتشكيل تصور شعب ما عن غيره، والبحث عن هذه العناصر فى مناهج التعليم والأدب، ووسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، والخطاب السياسى الرسمى وغير الرسمى، ولدى أتباع قوى سياسية، ولدى شتى أنواع النخب، لاسيما المثقفين ورجال الأعمال.
شيد العرب على هذه الأرضية ملامح تصورهم عن الولايات المتحدة الأمريكية التيهى حاضراً بشدة فى الحياة السياسية والاجتماعية العربية، وبشكل لا يمكن تجنبه أو إغفاله. وتتوزع هذه الصورة على فئات ثلاث متفاوتة، هى:
1ـ صورة الإدارة الأمريكية: وتحظى بصورة سلبية دائماً لدى المواطن العربى نظراً لتحيزها المستمر للسياسات الإسرائيلية، وتعاملها الفظ مع الفلسطينيين، الذين تعد قضيتهم مسألة جوهرية بالنسبة للعرب أجمعين. كما تبدو الإدارة الأمريكية متهمة لدى المواطن العربى بالتواطؤ مع الأنظمة الحاكمة، ومباركة استبداد بعضها، طالما أنها تحقق المصالح الأمريكية. وحتى لو أعلنت الإدارة الأمريكية أن لديها رغبة فى إنجاز إصلاح سياسى واقتصادى فى الدول العربية فإن المواطنين يتعاملون مع هذا الإعلان بريبة شديدة. وقد ازدادت صورة هذه الإدارة سوءاً لدى العرب بعد احتلال أمريكا للعراق ووقوفها ضد إرادة الشعب المصرى فى الثورة الأخيرة.
2 ـ صورة الشعب الأمريكى: وهناك من بين العرب من يحيل الشعب إلى الإدارة، فيراه سيئاً، أو يحمله مسؤولية الإتيان بكل الإدارات المتعاقبة التى تحيزت لإسرائيل على حساب المصلحة والأمن العربى، لكن كثيرين يفرقون بين حكومة الولايات المتحدة والشعب الأمريكى، فيرونه شعباً طيباً لا يمكن أن يؤخذ بجريرة إدارته. ويستند هؤلاء إلى عدة أمور فى بناء تلك الصورة الإيجابية، منها أن الأمريكيين غير معنيين كثيراً بالسياسة الخارجية، ومن ثم فإنهم لا يعرفون ما تفعله إدارتهم ضد العرب، وحين يعرفون، مثلما جرى بالنسبة لانتهاك حقوق الإنسان فى العراق، فإنهم يرفضون سلوك إدارتهم، ويتظاهرون ضدها.
3 ـ صورة الثقافة الأمريكية: وينقسم العرب فى تصورهم لهذه الثقافة إلى قسمين، فهناك من يراها إيجابية، قياساً على القيم الليبرالية التى تنطوى عليها، وهناك من ينعتها بالسلبية، لأن هذه الليبرالية تتناقض فى بعض جوانبها مع الكثير من ثقافتنا وخصوصيتنا الحضارية. وينتمى أتباع الفريق الأول إلى الليبراليين العرب بمختلف أطيافهم، وأنصار الفريق الثانى يتجسدون فى الإسلاميين بشتى ألوانهم. وتحفل كتب بعض المفكرين الإسلاميين بحديث مستفيض عن (انحلال الغرب) وفى مقدمته الشعب الأمريكى، حتى إن سيد قطب الذى أسست أفكاره لقيام تيارات جهادية عدة فى العالمين العربى والإسلامى يعزو كراهيته لأمريكا وأسباب تحوله من شاعر يتغنى بجمال النساء إلى مفكر أصولى سلفى إلى ما رآه بعينيه من انحلال فى الشارع الأمريكى أثناء زيارته إلى الولايات المتحدة خلال ستينيات القرن الماضى.
لكن هناك فى العالم العربى من يقف موقفاً وسطاً بين أصحاب هاتين الأيديولوجيتين المتباينتين، فينظر إلى الثقافة الأمريكية باعتبارها (حمّالة أوجه)، إذ بوسعنا أن نؤمن بالحرية ونتصرف على أساسها من دون أن نجور على ثوابتنا وخصوصيتنا. وأمثال هؤلاء يتفاعلون مع الثقافة الأمريكية كواقع. ويبدو رجل الشارع العربى أقرب إلى هذا الموقف، بل يصل الأمر عند كثيرين إلى حد الفصل التام بين الصورة السلبية التى تدركها الأذهان عن الثقافة الأمريكية وبين أحقيتنا فى التمتع بما أنتجته هذه الثقافة من علوم وفنون وأدوات للترفيه.
وتساهم عدة وسائل فى صناعة صورة أمريكا لدى العرب، بعضها متداخل وبعضها متجاور، وآخر متناقض، وفى مطلع هذه الوسائل السينما الأمريكية، التى تأتى على رأس السينما العالمية. ورسمت السينما الأمريكية صورة شبه أسطورية للفرد الأمريكى وللواقع داخل الولايات المتحدة فى ذهن المواطن العربى البسيط. وتوجد القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية والمجلات والصحف والكتب بمختلف موضوعاتها، التى تتدفق من الولايات المتحدة إلى العالم العربى، وبعضها تتم ترجمته إلى اللغة العربية.
وهذه المطبوعات ترسم صورة عن مجتمع منجز وحر مهتم بالعلم ويشجع على العمل والعطاء. ومثل هذه الصورة هى التى تدفع الكثير من الشباب العربى إلى الرغبة فى الهجرة إلى الولايات المتحدة. وهناك أيضاً وسائل أخرى منها الدبلوماسية وتوظيف المساعدات الاقتصادية، لكن كل هذه الوسائل لم تنجح فى إزاحة الصورة النمطية فى الذهن العربى عن أمريكا، التى تنظر إليها باعتبارها دولة متغطرسة ومتجبرة.
وهذا الوضع يقلق الأمريكيين كثيراً، بدليل طرحهم سؤالاًَ جوهرياً عقب أحداث الحادى عشر من سبتمبر هو: (لماذا يكرهنا العالم؟)، بل كان بعضهم أكثر تحديداً وتساءل: (لماذا يكرهنا العرب والمسلمون؟). ولم يقف الأمريكيون عند نقطة التساؤل، أو لم يكتفوا به، بل سعوا إلى تحسين الصورة، لكن هيهات لهم أن ينجحوا وهم لا يحترمون إرادة شعبنا، ولا يرون إلا مصالحهم، ويدوسون بأقدامهم القيم التى يتشدقون بها.