(1)
صديق عمري مات..
كبرنا وأصبح لنا أصدقاء في القبور.. وعندما يكون أملك أن تقابل صديقك في عالم آخر فقريبًا ستذهب إلى العالم الآخر.
طالب هندسة شبرا أصبح مهندسًا متزوجًا وأنا لا أعرف كيف مرت السنوات وحدث هذا.. فبالتأكيد عندما يبلغني موته فلن أعرف كيف مرت السنوات وحدث هذا..
من كنت ألتقيه يوميًا لسنوات أصبح اليوم صورة، لن نسافر شقة الإسكندرية مرة أخرى.. لن نلعب الكرة ويرهقني بموهبته وأُرهقه بدفاعي المستميت.
للدقة.. لن نفعل شيئًا سويًا أبدًا.
محمد يحيى صاحبي الأقرب كان عضوًا بالإخوان.. وعقب الثورة بدا واضحًا لنا أن السياسة تزحف لالتهام صداقة دامت 18 عامًا منذ كنا في أولى ثانوي.
توقفنا عن التعليق عند بعض على فيس بوك وأصبحنا نتجنب الحديث في السياسة.. وعندما نلتقي نتبادل أحاديث باردة عن أحوال العمل والأسرة وفقط.
كنا سعيدين.. فنحن ناضجان نحافظ على صداقتنا في الوطن البائس.
عندما مات اكتشفت أن علاقتي بأقرب مخلوق لي في الدنيا أصبحت منذ سنتين أكثر سطحية من علاقتي بجاري العجوز الذي يجلس ليل نهار تحت بيتنا وألقي عليه السلام منذ كنت في الإعدادي.
لن أرى محمدًا ثانية.. ولكن هل كنت أراه أصلًا؟؟.. لن أتحدث إلى محمد ثانية.. ولكن من قال إننا كنا نتحدث أساسًا؟
أحلام المراهقة التي تقاسمناها عن إصلاح وطن تفتتت على نظرات عتاب صامت بعد محمد محمود والاتحادية.
أُقلب في جهاز الكمبيوتر في صور لم يبقَ لي غيرها.. فيطل شخص ما لا أهمية له برأسه في الجهاز ويسألني:
ــ المرحوم صاحبك كان إخوانًا؟
ـ الله يرحمه.. كان في اعتصام رابعة وربنا نجاه من المذبحة وقُدّرَ له أن يلقاه بعد حادث سيارة وهو في طريقه للسويس بلد زوجته.
ــ تلاقيه كان هربان من كمين ولا حاجة.. أصل فرج مبيعرفش أبوه في الأيام دي.
رددت عليه بما يليق، فلم يزدني ردي إلا كآبة.
لكن الخبر المبهج.. كلنا سنموت ونرحل عن هذه الدنيا قريبًا.
(2)
«الاعتصام اللي إنت بتغطيه بينضرب دلوقتي».
هكذا قالت والدة زميلتنا الصحفية لبنتها وهي توقظها من نومها لتخبرها بفض «رابعة».. حاولت الزميلة الذهاب للاعتصام لكنها مُنِعَت فتوجهت لمستشفى هليوبوليس.
طرقات المستشفى تحولت لبركة دماء كبيرة، حتى إن عمال النظافة كانوا يزيلون شريط الدماء بخراطيم المياه.
تتوقف زميلتنا بهيبة أمام مشهد الأكفان البيضاء التي تخرج من المستشفى، بينما سيدة محجبة أربعينية تتقدم من ضابط الجيش المسؤول عن تأمين المستشفى وتمد يدها إليه لتصافحه بحرارة قائلة:
ــ تسلم إيديكم.. ربنا ينصركم عليهم يا رب.
(3)
يومًا ما سيقف مَلك الموت على رأسنا ليقبض الروح.. ولحظتها سنتوقف عن الشماتة.
(4)
مش من بلدنا ولا من ولادنا..
مش من بلدنا اللي باع الأمان..
ولا من ولادنا اللي اشتراه الشيطان..
براء منه كلنا..
براء منه أمنا..
براء منه مصرنا..
غناء: أنغام
كلمات: اللواء إبراهيم موسى
(5)
نموت نموت.. فلماذا لا تحيا مصر؟؟
مقابر الغفير.. في اليوم التالي لفض اعتصام رابعة.
يذهب صديقي الأنقى أسامة الشاذلي لعزاء أحد ضباط الشرطة من أقاربه قُتل خلال فض اعتصام رابعة.. وما إن يُفتح القبر حتى تتقدم جنازة أخرى لنفس المقبرة.
في الخارج جنازة لفرد من نفس العائلة، لكن من فرع آخر وهو عضو بالإخوان سقط بدوره في رابعة.. تنتظر أسرة الإخواني في الخارج لحين انتهاء مراسم دفن الضابط.. أسامة وكبار العائلة يتبادلان المواساة بأدب وسط نظرات كراهية بين شباب فرعي العائلة.
خلال دقائق.. تنزل جثة الضابط وبعده جثة عضو الإخوان ليستقرا في نفس القبر ونفس الحفرة ويغلق عليهما معًا.
(6)
مش من بلدنا ولا إنت أبدًا ابن مصر..
ولا من ولادنا ولا حاربت يوم من أجل مصر..
ولا فرحت لفرحنا..
ولا حزنت لحزننا..
مش من بلدنا ولا من ولادنا..
مع تحيات: وزارة الداخلية إدارة الإعلام والعلاقات العامة.
(7)
أجلس في عزاء جار لنا عضو بالإخوان قُتل برابعة.. أتبادل مع عائلته حديثًا قصيرًا عن أخلاقه رحمة الله عليه قبل أن ينتقل الحديث للسياسة، فيقول عم جارنا الفقيد:
ــ إيه المشكلة أما يتقتل نص مليون ولا مليون منهم علشان البلد تنضف.
للحظات لم أستوعب عمن يتحدث.. فنحن في عزاء ابن أخيه المقتول.. نظرت إلى العم بدهشة كأني أشاهد تنّينًا مجنحًا ولكني توقفت عن الدهشة عندما وجدت الأب يهز رأسه موافقًا قبل أن يضيف العم:
ــ كنت ضابطًا بالجيش.. من يريد تقسيم الجيش قتله واجب وطني.
ابتسمت لهم ابتسامة صفراء فاقع لونها تضر الناظرين، فحاول أخو القتيل تلطيف الأجواء قائلًا:
ــ كان فيه ناس محترمة زي أحمد كان مضحوكًا عليهم.. لكن الباقيين عايزين الحرق.
(8)
مش من بلدنا ولا من ولادنا..
ولا تعرف مدى حبنا..
وقلوبنا على بعضنا..
مش من بلدنا ولا من ولادنا..
سُجلت «الأغنية» عام 1995 وتذاع لأول مرة عام 2013
(9)
أنتظر دوري في مستشفى العيون.. فيظهر السيسي على التليفزيون.. تنزعج إحدى الممرضات وتنتفض لتغيير المحطة ولكن زميلتها تستوقفها قائلة:
ــ سيبيه ده البرنس.
ــ ده بيقتل الناس.
ــ ما هم الناس بيقتلونا في الاتحادية وسينا.. وقالوا علينا كفار ومنافقين ومش عارفة إيه؟.. على الأقل ده حامينا إحنا.. هاتي البرنس يا خايبة.
(10)
الحكايات كثيرة.. ولكل منا لديه حكاية إنسانية تثبت أننا لم نعد كذلك.
إنها رائحة الموت.. فلماذا الأنوف لا تشم؟
رابط تجدر الإشارة إليه:
