«10»
بينما عثمان رضى الله عنه يتولى مسؤولية الخلافة، كان أبو ذر فى الشام يقيم ويراقب فوارق تنمو وتكبر بين رجال الحكم، وعلى رأسهم معاوية بن أبى سفيان، وبين عموم المسلمين، خصوصا بعد أن تدفقت الأموال بعد الفتح من مصر وبلاد الفرس، فأثْرت نخبة من المسلمين وبقى كثيرون على حالهم.
اختار أبو ذر أن يثور للفقراء فالتفوا حوله، كان يسعى طول الوقت لجذب الأنظار إليهم، تحولت كلماته إلى شعارات تتردد فى تجمعاتهم.
كان أبو ذر يقول:
عجبت لمن لا يجد القوت فى بيته كيف لا يخرج شاهرا سيفه على الناس.
أثارت الجملة حفيظة سكان القصور واعتبروها تهديدا، فأرسلوا له العطايا والأموال، لكنه انتصر للفقراء من جديد.
قال أبو ذر:
لا حاجة لى فى دنياكم.
ثم زادهم من الشعر بيتًا فقال:
إذا سافر الفقر إلى مكانٍ ما قال الكفر خذنى معك.
كان أبو ذر يحمل الكبار مسؤولية أن يفقد الفقراء دنياهم ودينهم، فأرسل معاوية إلى عثمان رسالة يقول فيها «إن أبا ذر قد أفسد الناس فى الشام»، فطلب إليه أن يقابله ويناقشه.
دخل أبو ذر على معاوية قائلا: أذكّرك بقول الله «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ»، قال معاوية: نزلت فى أهل الكتاب.
قال أبو ذر: نزلت فيهم وفينا.
استرجع أبو ذر مهاراته القديمة فى قطع الطريق، فشعر معاوية أنه لا منفذ للهروب من مواجهة هذا الرجل، فأرسل يجدد الشكوى لعثمان، فطلب عثمان أن يقابله بنفسه.
«11»
بينما يتأهب المسلمون للرحيل عن محطة راحتهم باتجاه تبوك، نظر أحدهم فرأى رجلا قادما من بعيد على قدميه.
فقال: يا رسول الله، هذا رجل يمشى على الطريق.
قال النبى: كُن أبا ذَرّ.
كانت ملامح الرجل تتضح ببطء كلما اقترب من المسلمين إلى أن صاح أحدهم فرحًا: هو -والله- أبو ذر..
قال النبى: «رحم الله أبا ذَرّ،
يمشى وحده،
ويموت وحده،
ويُبعث وحده».
«12»
فى الطريق إلى عثمان كان أبو ذر يعيد على نفسه وصية النبى له «اسمع وأطع»، واسترجع نصيحة النبى له بالصبر فى سياقها، كان النبى قد سأله عن رد فعله إذا وجد أمراء يستأثرون بالخير، فقال أبو ذر: «إذًا والذى بعثك بالحقّ أضرب بسيفى حتى ألحق به». فقال: «أفلا أدُلّك على ما هو خير من ذلك؟ اصْبِرْ حتى تلقانى».
فى المدينة وجد أبو ذر صدًى لدعوته الثورية، فالتف حوله الفقراء من جديد، وشعر بحجم المسؤولية الملقاة فوق عاتقه بينما يدخل على خليفة المسلمين.
تناجى عثمان وأبو ذر حتى ارتفعت أصواتهما، ثم خرج أبو ذر على الناس مبتسما، فسألوه «ما لك ولأمير المؤمنين؟»، فقال: سامع مطيع.
كان عثمان قد طلب منه أن يبقى إلى جواره على أن يبذل له العطاء، إلا أن أبا ذر آثر أن يرحل بعيدا وحيدا، فطلب من عثمان أن يأذن له بالرحيل إلى «الربذة» فى شمال العراق، فأذن له.
لولا وصية النبى بالسمع والطاعة ربما تغير الأمر.
التزم أبو ذر بالوصية بينما الضغط عليه يتصاعد.
عندما استقر فى العراق بدأت تزوره وفود كثيرة طالبة منه أن يحمل راية الثورة على عثمان بن عفان، قالوا له: فعل بك الخليفة كذا وكذا، وإذا أردت نمدك بالرجال ما شئت، رأى أبو ذر وصية النبى فى كفة والفتنة فى كفة أخرى، فقال للناس:
«والله لو أن عثمان صلبنى على أطول خشبة،
أو جبل لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت،
ورأيت أن ذلك خيرٌ لى،
ولو سيَّرنى ما بين الأفق إلى الأفق،
لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت،
ورأيت أن ذلك خيرٌ لى،
ولو ردنى إلى منزلى لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت،
ورأيت أن ذلك خيرٌ لى».
انقطع أبو ذر عن الناس، لكن بقى يضيف من يزوره بالنصيحة.
«13»
أوصيك بحب المساكين وأن تدنو منهم.
وأن تنظر إلى من هو دونك، ولا تنظر إلى من هو فوقك.
ولا تسأل أحدا شيئا.
وصِل رحمك وإن أدبرت.
وقل الحق وإن كان مرًّا.
ولا تخَف فى الله لومة لائم.
وما تكنزه هو جمر عليك حتى تفرغه فى سبيل الله.
والمال درهمان، واحد تنفقه على عيالك، والثانى تقدمه لآخرتك، الدرهم الثالث يضرك ولا ينفعك.
وأكثِر من لا حول ولا قوة إلا بالله فهى كنز.
قال أبو ذر.
«14»
ماتت ابنته ثم ابنه، وبقى فى الربذة حيث لا أحد سوى خيمته وزوجة عجوز.
كان يلفظ أنفاسه الأخيرة وسط دموع زوجته وغلامه.
سألها عما يبكيها؟ فأخبرته كم يشق عليها أن يموت وحيدا فى أرض مقطوعة وليس لدينا ثوب يسعك كفنا.
قال أبو ذر: إذا مت، فغسّلانى وكفنانى، وضعانى على الطريق، فأول ركب يمرون بكما فقولا: هذا أبو ذر.
فلما مات فعلَا ما أمر به.
بعد قليل مر عبد الله بن مسعود مع جماعة من أهل الكوفة، رأى المشهد فقال: ما هذا؟
قال الغلام: هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه.
صلى عليه ابن مسعود ودفنه، ثم وقف أمام قبره يبكى قائلا: صدقت يا رسول الله.. مشى وحده.. ومات وحده.
(من كتاب «أثر النبى».. يصدر قريبا)