الديمقراطية فلسفة وقيمة إنسانية راقية، فهى من ناحية شكل من أشكال الحكم مقابل أشكال أخرى منها الثيوقراطية أو الدينية، التى تعنى حكم رجال الدين، ومنها العسكرية التى تعنى حكم جنرالات الجيش، وهناك أشكال أخرى أفرزتها تجارب الشعوب على مر التاريخ. تنفرد الديمقراطية من بين الأشكال المختلفة للحكم بأنها النظام الذى يقوم على المواطن، حقوقه وحرياته لذلك فإن التعريف الشائع للديمقراطية هى أنها «حكم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه»، هذا التعريف المبسط لشكل الحكم الديمقراطى يقول إن الشعب هو مصدر السلطات، وهو مصدر السيادة، وهو الذى يحكم «عبر التفويض أى اختيار الحكام»، وهو وحده صاحب الحق فى التجديد لهم «لحدود معينة، عادة دورتى حكم» وله وحده سحب التفويض أو استرداد التكليف. تنفرد الديمقراطية عن غيرها من أشكال الحكم بكونها شكلا من أشكال الحكم لا يقف بمفرده، بل يستند إلى منظومة من القيم الإنسانية مثل المساواة، والحرية والعدل، فالديمقراطية فى ذاتها شكل من أشكال الحكم وهى عبارة عن مجموعة إجراءات «تعدد الأحزاب، صوت واحد لكل مواطن، الانتخابات حرة نزيهة، دورية الانتخابات، تداول السلطة» لا تستقيم دون مصاحبة القيم الإنسانية، ولا يمكن اختزال الديمقراطية فى مجموعة إجراءات كالانتخابات الحرة مثلا، فقد تجرى نظم حكم انتخابات دورية، وقد تكون نزيهة دون أن يعنى ذلك أن نظام الحكم ديمقراطى، كما أن هذه الانتخابات الحرة لا تفرز بالضرورة حكاما ديمقراطيين أو يحترمون الديمقراطية، بالعكس هناك تجارب فى التاريخ أفرزت الانتخابات الحرة فيها حكاما مستبدين سرعان ما ألغوا الديمقراطية وانتهكوا حقوق المواطن، ومنهم من جاء بالديمقراطية وأشعل حربا كونية «هتلر جاء بالديمقراطية وأشعل الحرب العالمية الثانية التى راح ضحيتها خمسون مليون إنسان». من هنا نؤكد أن الانتخابات الحرة النزيهة شرط لازم لاكتمال الديمقراطية لكنها ليست شرطا كافيا، فوجودها ضرورى لاكتمال الديمقراطية، ولكن وجودها فى ذاته لا يعنى بالضرورة أن النظام ديمقراطى، فلا بد من توافر القيم الإنسانية الأخرى المصاحبة للديمقراطية كالحرية والمساواة والعدل. أفرزت خبرات البشر أشكالا مختلفة من الديمقراطية، ووضع كل مجتمع بصمته على النسخة المشتركة، فالإنجليز أنتجوا الملكية البرلمانية، والأمريكان أنتجوا النظام الرئاسى، والفرنسيون اختاروا النظام المختلط. اتفقوا فى الجوهر «جوهر الديمقراطية» ونوعوا فى الأشكال حسب ظروف وطبيعة كل مجتمع من المجتمعات. على سبيل المثال تحددت دورات رئيس الجمهورية فى النظم الرئاسية بدورتين بمتوسط ما بين أربع إلى خمس سنوات للدورة، لكن المكسيك اختارت أن يبقى الرئيس لدورة واحدة فقط ولمدة ست سنوات. وجاءت التجربة الأهم من جنوب إفريقيا بعد انتهاء الحكم العنصرى البغيض، جاء الزعيم نيلسون مانديلا وطرح مبدأ المصالحة الوطنية وكانت التحديات كبيرة على مختلف المستويات، كان التحدى الأبرز هو طمأنة الأقلية البيضاء التى أسست الدولة واضطهدت الأغلبية السمراء، وكان التحدى التالى تجاوز الانقسامات القبلية، طمأن مانديلا البيض من خلال دستور ينص على المواطنة والحقوق والحريات، مشترطا عدم تغيير أى من هذه المواد فى الدستور قبل مرور عقدين من الزمان، وتجاوز التحديات الناجمة عن الانقسام القبلى عبر تغيير جوهرى فى طبيعة ودور نسبة الحسم فى الانتخابات، فنسبة الحسم هى النسبة التى ينبغى أن يحصل عليها الحزب السياسى أو القائمة الانتخابية حتى يدخل البرلمان وهى تتراوح بين نصف بالمئة «مثل مصر» وعشرة بالمئة «تركيا»، وهدفها تحديد المجال المتاح أمام الفئات المختلفة لدخول البرلمان فخفض النسبة يعنى رغبة فى دخول عدد كبير من الأحزاب والقوى السياسية للبرلمان، وتمثيل مختلف ألوان الطيف فى المجتمع، ورفع النسبة يعنى بالأساس التضييق على بعض ألوان الطيف فى المجتمع وإضعاف فرصتها فى دخول البرلمان منفردة، لكن مانديلا قرر منح كل من يتجاوز نسبة الحسم وهى خمسة بالمئة، الحق فى دخول الحكومة، وبذلك استوعب قوائم انتخابية قبلية وأشركها فى الحكومة وهو إجراء هو الأول من نوعه فى تاريخ النظم الديمقراطية. المقصود من وراء كل ذلك هو بيان أن الديمقراطية شكل من أشكال الحكم، فلسفتها هى خدمة الإنسان وإسعاده، تنهض على قيم إنسانية، لا تأخذ شكلا واحدا ولا يفرض مجتمع رؤيته على آخر، بل تتحدد الأشكال وفق طبيعة كل مجتمع، ونؤمن أننا فى مصر لدينا القدرة على تشكيل نموذج ديمقراطى حقيقى يعبر عن مجتمعنا، وقيمنا وثقافتنا، المهم أن نؤمن بذلك.
فلسفة الديمقراطية
مقالات -
نشر:
28/8/2013 2:41 ص
–
تحديث
28/8/2013 7:47 ص