مَن يتمتع ببعض الحس التاريخى يعلم أن مصر تصوغ الآن نظاما إقليميًّا جديدًا تفقد الولايات المتحدة الأمريكية كثيرا من مكانتها فيه، إننا الآن أمام خريطة إقليمية جديدة فريدة من نوعها ترسم مصر والسعودية والإمارات فيها الخط الأكبر والأعظم بعدما شوَّه شعب وجيش 30 يونيو تقاسيم الخريطة المشبوهة لشرق أوسط جديد التى وضعتها وحلمت بها أمريكا وتوابعها فى العالم الغربى.
رغم ما تمر به مصر من محنة وألم عظيمَين من التآمر والخيانة والعمالة وغدر الحلفاء والوصوليين والمنافقين وقسوة الخصوم فإنها آلام الشفاء، والفرج آتِِِ بإذن الله، والعمر الطويل لك يا مصر.
المكابرة والارتباك والتمزق والمعاندة والمعاناة والارتعاش هذه هى طبيعة المرحلة التى تعيشها أمريكا الآن، ويظهر ذلك جليًّا فى إشارات أوباما إلى أن الولايات المتحدة لا تزال «أمة لا غِنى عنها» فى منطقة الشرق الأوسط المضطربة، والحقيقة أن أوباما هو من يعانى من أزمة قوية أمام الصخرة القوية مصر، وقد تكسرت عليها وتتكسر كل يوم آلاف الأمواج الهائلة من التصريحات والتهديدات والتلميحات، وأخيرا التلويحات بسلاح التدخل العسكرى فى سوريا على خلفية الادعاء باستخدام بشار الأسد للسلاح الكيماوى، ولنا فيه قصة أخرى فى أعداد قادمة إن شاء الله.
إن السيد أوباما يريد أن يغطى على فشله الكبير فى مصر بضرب سوريا، يريد أن يشعل المنطقة حربًا لأن روسيا دخلت على الخط بتحذيرها لأوباما وكذلك إيران من المساس بسوريا وسيكون هو الخاسر الأكبر فيها.
يا لهذا الغباء! كيف يفكر فى ضرب سوريا ووراءه جبل من الفشل المروّع فى كل من أفغانستان والعراق ومئات المليارات من الدولارات التى تم إنفاقها على هذه الحروب؟ إن العمليات طويلة الأمد التى شنتها أمريكا على أفغانستان والعراق كشفت إلى أى مدى شكلت ضغطا على موارد أمريكا المتاحة، ونقل تقرير إخبارى أذاعته «BBC NEWS» فى يناير 2006 تحت عنوان «الجيش الأمريكى على حافة الانهيار» دراستين إحداهما قامت بها وزارة الدفاع والأخرى قام بها مسؤول فى إدارة الرئيس السابق كلينتون، محذرا من أن الجيش قد أصبح منهَكًا بشكل خطير بسبب حجم العمليات فى العراق وأفغانستان، وفى استطلاع للرأى أُجرىَ فى 2008 وشمل 3400 ضابط من العاملين والمتقاعدين فى مستويات قيادة مرتفعة أجرته مجلة «فورين بوليسى» ومركز الأمن الأمريكى الجديد وجدوا أن 60% منهم يرون أن الجيش الأمريكى يبدو اليوم أضعف مما كان عليه قبل خمس سنوات إشارة منهم إلى حروب العراق وأفغانستان وسرعة نشر القوات التى تتطلبها تلك الصراعات.
بأى أمارة يريد أن يضرب سوريا، الحقيقة أن كل الأمارات تنبئ بأن الولايات المتحدة الأمريكية أمة أرادت أن تصبح إمبراطورية مترامية الأطراف (وكم من إمبراطوريات بذرت بذور خرابها فى نهاية المطاف بتمددها الاستعمارى والمثال على ذلك بريطانيا وروما)، ويشير مايكل جيه بانزنر فى كتابه «عندما يسقط العمالقة» إلى أن الواقع يشير فى كثير من الأدلة إلى أن أيام أمريكا باعتبارها زعيمة للهيمنة باتت معدودة، ويعزز هذا الكلام المؤرخ والخبير تشالمرز جونسون مؤلف كتاب «الأيام الأخيرة لجمهورية أمريكا» بالإحصائيات، حيث تكشف بيانات وزارة الدفاع الأمريكية على سبيل المثال أن أمريكا لديها 737 قاعدة عسكرية فى 130 دولة حول العالم، كما يمتلك الجيش ما يساوى 600 مليار دولار من العقارات و6000 قاعدة فى الولايات المتحدة نفسها والأقاليم التابعة لها.
من أمارات زوال الإمبراطورية الأمريكية الوشيكة إصابتها بالإسراف فى الإنفاق والاقتراض من الصين واليابان والدول المنتجة للنفط فى الشرق الأوسط، ويلاحظ المؤرخون وجود علاقة قوية بين الحيوية الاقتصادية وبراعة الأمة فى صنع الحرب. إذن نحن أمام دولة إن لم تغيِّر عاداتها فى افتعال الأزمات لإشعال الحروب فى منطقتنا فلن تجد إلا دربًا مظلمًا تسير فيه لن يلوح فى أفقه أى ضوء.