على مدى ما يقرب من ثلاثة أشهر أكتب عن «التمرد»... بداية من حركة «تمرد»... ثم محاولة تأمل فترة ما بعد تمرد... استغرقتنا جميعا اللحظة السياسية الراهنة... ولم لا وهى بالفعل لحظة تاريخية، مهما كانت مواقفنا... لحظة يصنع فيها التاريخ... فى هذه الأثناء رحل عن عالمنا أحد أهم رموز «التمرد» فى مصرنا البديعة، المبدعة... أقصد المخرج السينمائى الكبير صاحب الأفلام القليلة، ولكنها تعد علامات مميزة فى تاريخ السينما المصرية أحد أهم نتاجات الدولة المصرية الحديثة، إنه الأستاذ توفيق صالح... عرفته- سينمائياً- مرة واحدة عندما نظمت سينما كريم فى الثمانينيات أسبوعاً لأفلام توفيق صالح... كنا نسمع عنه ونستدعيه فى السبعينيات كأحد صناع السينما التقدميين... ولكنه كان ممنوعاً هو شخصيا وأفلامه بالطبع عن التواصل مع الناس... ما دعاه إلى الرحيل عن مصر، شأنه شأن كثير من المبدعين خلال هذه الفترة مثل: أحمد عبد المعطى حجازى، وغالى شكرى، ومحمود السعدنى، وألفريد فرج، وإبراهيم عامر، وأمير إسكندر، وعبد الغنى قمر وغيرهم... وقد كانت هذه هى أحد ملامح السبعينيات التى وصفتها- فى دراستنا عن الطبقة الوسطى و25 يناير- بأنها كانت تعبر عن دولة يوليو المضادة، التى انقطعت، وبالطبع عن ثورتها، وشهدت ميلاد التحالف التاريخى بين اليمين الدينى والسياسى.
ومع الانفراجة- المحسوبة- التى عشناها فى الثمانينيات... أستدعى تراث الستينيات الأدبى والفنى: الغنائى والسينمائى، ربما للتغطية على المسار المغاير الذى كانت تشهده البلاد... والمفارقة أن تاريخ عودة توفيق صالح من الهجرة القسرية إلى البلاد العربية فى السبعينيات كانت فى سنة 1984. ومنذ هذا التاريخ لم يمارس المهنة... ربما تمردًا على لحظة تاريخية أمكن فيها للمصريين أن يعبروا فيها عن أنفسهم، ولكن دون أن يحولوا هذا التعبير إلى فعل أو تنظيم... وكأنه يقول:
■ يكفينى أننى تمردت فى وقت كان يصعب فيه التمرد.
ولعل فيلمه المتميز «المتمردون» يلخص توفيق صالح وأعماله القليلة البارزة (أنتج فى 1968) أى فى الفترة الناصرية (المأخوذ عن قصة للسياسى والأديب والمثقف الكبير صلاح حافظ صاحب المدرسة الصحفية الممتدة)... حيث تناول قصة مجموعة من مرضى السل يعيشون فى إحدى المصحات المعزولة، تديرها إدارة متسلطة، تميز بين الأغنياء والفقراء، ما أدى إلى تمرد المرضى واستيلائهم على مبنى الإدارة واختيارهم طبيباً من المتعاطفين مع الفقراء ليصبح مسؤولاً عن المصحة... ومعبراً عن المرضى وتمردهم على السلطة القديمة... وبغض النظر عن أن وزير الثقافة آنذاك قد رأى تغيير النهاية... إلا أن أبوشادى يقول عن الفيلم:
■ «ربما كان المتمردون أول فيلم مصرى يمتلك شجاعة الاختلاف مع نظام الثورة وقائدها، ويدين إدارة الثورة، ويوضح عجزها عن العمل لصالح الشعب، وتقاعسها فى رفع الظلم والقهر والعنت عن كاهله».
من جانبه، اعتبر توفيق صالح أن قيمة الفيلم فى أنه لفت النظر إلى الخطر الذى يهدد الناس «الغلابة» وأنه لا سبيل لتغيير الواقع إلا بالتمرد... وكان التمرد «التيمة» الرئيسية لأعماله على الفقر والواقع البائس والاستبداد والحظ... ومن أفلامه: «درب المهابيل»، ويوميات نائب فى الأرياف، والمخدوعون (حول الاستموات من أجل الهجرة إلى النفط) وزقاق السيد البلطى، وصراع الأبطال... أدعو إلى تنظيم مهرجانات لأفلام توفيق صالح وطبع سيناريوهات أفلامه خاصة أن من أعدها كبار أدباء مصر مثل: نجيب محفوظ، وألفريد فرج، وصالح مرسى، وعبد الحميد جودة السحار.
رحم الله المتمرد المجدد... الذى قدم مثلاً عملياً بأنه لا تجدد إلا
بالتمرد.