هل تصدقون أن الوسط الفنى وغرفة صناعة السينما وجبهة الدفاع عن حرية الإبداع والقنوات الفضائية سيفعلون ما تردده الصحف الآن ويقاطعون الفيلم الأمريكى؟ صدقونى لن يُقدموا على هذه الخطوة، سيتراجعون ألف مرة، بالطبع سوف تستمع إلى كلمات حنجورية، لا للسينما الأمريكية، نعم سنتصدى لتغلغل الحُلم الأمريكى حماية لتغلغل الحُلم المصرى، فلتسقط إنجيلينا جولى ولتحيا غادة عبد الرازق.
إلا أنهم حين البأس لن يستطيعوا أن يتقدّموا للأمام خطوة واحدة فى هذا الشأن وكلمتهم «ح تنزل المرة دى».
لو تعمّقت قليلًا ستكتشف أنهم كانوا أسودًا على الدراما التركية، لكنهم نعامة عندما تعلّق الأمر بالفيلم الأمريكى، تراجعوا جميعًا «كش ملك»، دائمًا فتش فى تلك القرارات عن الحكمة الخالدة «المصالح تتصالح»، فلقد تصالحت مصالحهم عندما تعلّق الأمر بالدراما التركية، الحكاية فى عمقها ليست لها علاقة بالوطن وبمواقف أردوغان كما صدّروا للرأى العام، إنه فقط صراع يعبر عن مصالح شركات إنتاج تليفزيونية وقنوات فضائية وفنانين، سواء أكانوا كتابًا أو مخرجين أو نجومًا استشعروا أن هناك منافسًا يقاسمهم أرزاقهم، وهو المسلسل التركى، وصار يشكّل كابوسًا بالنسبة إليهم، واعتقدوا لو أنهم تخلّصوا منه فسوف يصبحون وحدهم فى الميدان ويشغلون كل المساحات الدرامية، ولهذا تتعجب مثلًا عندما تجد أن «جبهة الدفاع عن حرية الإبداع»، تطالب بالمصادرة والمنع ويعلنون للرأى العام أنهم يفعلون ذلك حماية للوطن، رغم أن الحرية قيمة عامة وليست قاصرة على فصيل أو اتجاه، وتقفز فوق الحدود الجغرافية والعرقية.
الفيلم الأمريكى صفقة تحقّق أرباحًا لعديد من الجهات، ربما فقط ستنجو من هذه اللعبة نقابة السينمائيين التى ستصدر بيانًا، إلا أنه فى نهاية الأمر لن يصبح له أى تأثير يُذكر، بينما غرفة صناعة السينما، والتى يشارك فى عضويتها مع المنتجين أصحاب دور العرض وموزّعو السينما، هؤلاء بالتأكيد لن يضحّوا بما يحقّقه لهم الفيلم الأمريكى من مكاسب فى دور العرض، ومع تراجع الإنتاج السينمائى المصرى، فإن مَن يشغل الشاشات الخاوية حاليًا هو الفيلم الأمريكى، كما أن القنوات الفضائية المتخصصة فى السينما لن تستطيع الاستغناء عن الفيلم الأمريكى فهو يشكل 70% على الأقل مما تبثّه للناس. أنا بالطبع ضد المصادرة وأرى أنها سلاح الضعفاء الذين لا يملكون ما يقدمونه فيلجؤون إلى إزاحة المنافس، ولهذا فأنا لا أطالب بالطبع بإصدار قرار بمقاطعة الفيلم الأمريكى، ولكن هدفى أن أفضح حالة التناقض التى تعيشها الأجهزة فى مصر، وكيف أن بعض القضايا ترتدى زيًّا وطنيًّا، والوطن منها براء، لا أنكر أن الغضب فى الشارع متوفّر ومثل هذه القرارات تدغدغ المشاعر الوطنية للوهلة الأولى، ولكنها تسقط بعد ذلك ويبقى فى الحقيقة الجانب الآخر من الصورة وهو اللعب بالموقف الثورى من أجل تحقيق مكاسب لحظية، وهم لا يدركون أن المواطن فى أى لحظة سيدرك ببساطة أنهم «يشتغلونه».
لماذا صرنا بكل هذه الحدة؟ فى الحقيقة إن ما نعيشه هو أشبه ما يكون بموقف ثابت لا نزال نتحرك داخل قواعد قانون المظاهرات، وفى المظاهرة الناس لا تنتظر أن تقول لهم قصيدة حافظ إبراهيم «وقف الخلق ينظرون جميعًا كيف أبنى قواعد المجد وحدى»، لن ينصت إليك أحد، هم يريدون كلمات ساخنة، وكلما زادت مساحة التطرف والحدة وجد الصوت صدى أكبر، ولهذا ستكثر فى هذه الأثناء مثل هذه الأصوات ثم تتبدد وكأنها لم تكن، لأن المواطن فى علاقته بالثقافة والفنون لن يخلط بين الأمور.
بالتأكيد، يومًا ستخبو مشاعر الناس تجاه الدراما التركية، سيتركونها إلى غيرها حتى لو كانت العلاقات السياسية فى عز وهجها وتألقها، أتذكّر فى الثمانينيات كان الفيلم الهندى فى الشارع هو سيد الموقف، حتى إننا فى أمثالنا أصبحنا نردد على سبيل التعجب «أروع من سانجام وأقوى من سوراج»، وهى عناوين أفلام هندية حقّقت نجاحًا ضخمًا ثم ماتت تلك الحميمية ولم يعد أحد يقطع تذكرة للفيلم الهندى. المشاعر فقط هى التى تحدّد بوصلة التوجه الفنى، ولكننا صرنا نبيع الوطن لتحقيق المصالح والصفقات، وهكذا سيظل صُنّاع مثل هذه القرارات العنترية أسودًا على أردوغان وعلى أوباما نعامة.