العالمانية هى الركيزة الأساسية لدولة المواطنين (الدولة المدنية)، العالمانية كلمة مترجمة تعنى فى لغتها الأصلية «المعنى بشؤون هذا العالم»، وبالتالى فهى معنية بما يصلح حياة البشر فى هذه الدنيا. كل مفاهيم دولة المواطنين، من حقوق أساسية للمواطن، ومن مساواة بحكم المواطنة، ومن ديمقراطية، مفاهيم عالمانية بالأساس. لم تتوصل إليها البشرية إلا بإقصاء الحكم الأخروى لهذا العالم. أى حكم رجال الدين المعنى بتحسين فرصنا فى العالم الآخر عن طريق التحكم فى هذا العالم.
هذان مفهومان متقابلان متضادان تماما لفكرة الحكم والسلطة. ولدور الحكام وغرضهم وغاياتهم. ولمهمة المحكومين، وطبقاتهم، ودرجاتهم، وتصنيفهم.
وهذان مفهومان يتغلغان فى كل تفصيلة من تفاصيل الحياة اليومية، وليسا مجرد مفهومين مهمين للنخبة. المطعم والمسكن والملبس وحق التعليم وضمان السلامة من الأذى وضمان العدالة أمام القانون، كلها أشياء نسعى جميعا إليها، من كل الطبقات، من كل المعتقدات، لكن دون أن نعلم أن هذه هى العالمانية «شؤون هذا العالم».
فى حين أن الدولة الأخروية تنظر إلى الحياة من موقع ما بعد الموت. فتعادى دولة، لأنها شيعية، على اعتبار أننا سنحاسب فى الآخرة على موقفنا من الشيعة، أو تضيق على السياح لأنهم «يغضبون الله». ناهيك باستهداف مواطنين من رعاياها، لأنهم «ليسوا على الدين الحق». كما أنها تعتمد أنظمة مصرفية واقتصادية من واقع تقييمها لمدى «تأثيرها على موقفنا يوم القيامة»، فى العالم الآخر، وليس فى هذا العالم.
التيارات السياسية المدنية فى مصر لديها أزمة هوية، لأنها تخجل، أو تخاف، أو تناور، فى إصرارها على العالمانية كنقطة بداية لأى عمل سياسى ديمقراطى. الديمقراطية، حكم الشعب بالشعب، مفهوم عالمانى صرف. يضاد ويقابل المفهوم الدينى للحكم، الذى أشرت إليه سابقا.
ومن هنا فإن التعامل مع أزمة الهوية عند التيارات المدنية المصرية يبدأ من فهم هذه التيارات لمواصفات نفسها، بدلا من تركيزها على مواصفات عدوها. بأى معنى؟
التيارات المدنية فى مصر تعرف نفسها بمناهضة نفوذ المؤسسة العسكرية. صحيح أن دولة المواطنين لن تتحقق إلا فى غياب أى حكم فئوى، سواء كان لفئة العسكريين، أو لفئة المهندسين، أو لفئة الأطباء، أو لفئة القضاة، أو لفئة ضباط الشرطة. وصحيح أن الحكم العسكرى ينتقص من «مواطنية» الدولة، ويخل بقواعد المنافسة المثالية.
لكن الحكم الدينى يهدم مفهوم المواطنية، الدولة المدنية، من أساسه. تركيز القوى المدنية على غرض «القضاء» على الحكم العسكرى السيئ، فى مقابل تراخيها فى المواجهة مع الحكم الدينى الكارثى، مصيبة فى حد ذاته، تعكس عدم فهم للغرض من إقامة دولة مدنية، ولا أولوية الأخطار المحيطة بها. تهويل القوى المدنية لمدى «عسكرة» الحكم فى مصر، فى مقابل تهوينها لمدى «دينية» دولة الإخوان. مصيبة ملحقة بتلك.
لكن الكارثة الكبرى هى أن انشغال القوى المدنية بهذه المعركة التقييمية يصرفها عن معركتها الأساسية. لأن الطريقة الوحيدة لعدم عسكرة الدولة فى مصر هى تقديم بديل مدنى نشط، واضح، مقنع، يتحمل المسؤولية (خطين هنا وحياتك!). المفتقد لدى القوى المدنية هو التركيز على تكوين هذا البديل وتقديمه، والاكتفاء بالقيام بدور المعترض على الآخرين، «السواقة من المقعد الخلفى». أو بالجعجعة النظرية التى تعفيها من اختبار الإنجاز العملى، والتى تعفى أبناءها أيضا من اختبار ذواتهم المتضخمة فى عمل جماعى. اسألى نفسك السؤال الذى يسأله المواطن العادى: طيب لو مشى الجيش دلوقتى مين هييجى مكانه؟ (لو نجحنا فى القضاء قضاء نهائيا على نفوذ المؤسسة العسكرية من سيحل محلها فى الوقت الحالى؟) ضعف القوى المدنية وتكاسلها وسيطرة روح التنظير والتفكير النصوصى عليها جعل الإجابة «حكم دينى». التباس الهوية لدى القوى المدنية مما جعلها تحالف قوى دينية، أو تستهين بخطرها، جعل الإجابة «حكم دينى».
افتحى كتبك زى ما انتى عايزة، واستشهدى بنصوص زى ما انتى عايزة، لكن طول ما البديل حكم دينى طائفى فمعناه أنك تحاربين طواحين هواء. وتكرسين لمزيد من التأييد لـ«عسكرة الدولة»، من جانب المواطنين المحبطين منك. الاشتباك جزء من المعركة، لكن تقديم النموذج البديل هو عنصر الجذب الوحيد للجمهور.