فى كتابه «أربعة أشهر فى قفص الحكومة» يروى حازم الببلاوى بإسهاب رحلته مع مشروع إصلاح الرواتب بحديها الأقصى والأدنى، وهو المشروع الأكثر أهمية وارتباطا باسمه خلال وجوده فى حكومة عصام شرف، وضمن هذا الجهد كانت رحلته فى البحث عن راتبه الذى وعد الصحافة بأنه سيعلنه عندما يعرفه!
غموض واجه نائب رئيس الوزراء وزير المالية، حتى فيما يخص راتبه هو. وكانت المعلومة الأولى عن الراتب هى الرقم الرسمى المضحك ١٨٨٢ جنيهًا وخمسة وستون قرشًا، لكنه فوجئ بعد ذلك بثلاثين ألف جنيه فى الشهر تضاف إلى حسابه المصرفى، وتوالت مكافآت أخرى من هيئات حكومية عن اجتماعات يحضرها بحكم منصبه، ولم يحدد حجم المكافآت التى يقول إنه رفضها مما شكل إحراجًا لزملائه الوزراء وأغضبهم.
هذه الطريقة من الالتفاف حول الراتب الأصلى ببدلات تفوقه بمئات وأحيانًا بآلاف المرات هى ما سميته فى مقالاتى هنا أيام المخلوع الأول وولده «رواتب التشكيل العصابى» فهى من حيث ضخامتها وعدم ثباتها تضمن سلسلة من الولاء من الأدنى لمن يمنحها كما فى التشكيلات الإجرامية، وتخلق من جهة أخرى حالة من الإحباط لدى الأكثرية وهو ما أسفر عن ظاهرة التباطؤ فى العمل الذى يصل إلى حد الإضراب غير المعلن التى نراها فى المؤسسات الحكومية.
سياسة الرواتب الإجرامية (التى تضمن إذلال من يحصل عليها ومن يحرم منها) نجحت فى تأخير سقوط النظام من خلال طبقة الحراسة التى خلقتها، بينما كان الاقتصاد كله يتداعى نتيجة للامتناع السرى عن العمل وشل مرافق الدولة. لم يمنع الإضراب السرى عن العمل «الثورة الجبانة» من قيام الثورة الشجاعة التى تطالب بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية.
وكان من الضرورى إنهاء هذا الوضع الشاذ وتحديد حد أقصى لما يجب أن يتقاضاه الموظف العام، وأن يكون هذا معلنًا بشفافية ومربوطًا بما يتقاضاه الموظف الأصغر طبقًا لسلم وظيفى محترم. هذه العدالة وتلك الشفافية يعيهما الببلاوى، وحسب كتابه فقد سعى إلى تحقيقهما خلال الأشهر الأربعة فى حكومة شرف.
لكنه، وحسب كتابه نفسه، لم يكن ثوريًا فى طرحه، لا من حيث نسبة التفاوت بين الحدين الأقصى والأعلى (التى اقترحها ٣٦ مثلاً) ولا من حيث توقيت التنفيذ، وبقيت اقتراحاته مجرد اقتراحات مفكر اقتصادى باح بها لبعض برامج التوك شو. على صعيد الواقع، انتهى إلى تبنى اللغة الإنشائية لمجلس الوزراء: «الموضوع معقد ومتشابك ويحتاج إلى دراسات مستفيضة» ورغم علمه بأن تشكيل اللجان هو الاسم غير الصريح لدفن أى مشروع، فقد أمسك بالعصا من المنتصف واقترح على مجلس الوزراء تعديلاً محدودًا وتشكيل لجنة لدراسة التعديل الشامل.
وانتهى الأمر ببقاء المشكلة، فلا المحدود تم تنفيذه ولا الشامل، وكما عانى الببلاوى فى بداية استوزاره من عدم شفافية راتبه، يعانى قارئ كتابه من عدم الشفافية الذى يكتنف القصة التى بقيت بلا نهاية، فلم نعرف من بالضبط الذى أحبط مشروعه: هل هم الوزراء ورئيسهم أم المشير طنطاوى والمجلس العسكرى؟
ما نعرفه أن الوزارة الفخ ذهبت وبقيت الاحتجاجات المشروعة التى انتقلت صفتها الازدرائية من نظام مبارك إلى المجلس العسكرى إلى الإخوان «الاحتجاجات الفئوية»، وفى الحقيقة فإن الذى جعل مظاهرات العدالة الوظيفية فئوية هو النظام نفسه فى حقبة النهب فى النصف الأخير من حكم مبارك من خلال بدعة «الكادر الخاص»، التى تمنح مزايا لكل فئة طبقًا لقوتها وحجم المشكلات التى يمكن أن تثيرها احتجاجاتها، فارتفعت رواتب بعض المهن وبقيت الرواتب الأدنى على الإطلاق من نصيب الأطباء، لأن نقابتهم المتأسلمة كانت مشغولة بالجهاد فى البوسنة وليس تحسين حياة أعضائها.
والآن حان وقت الإقلاع عن المراوغة وطرح الموضوع بقوة وسرعة، ولتكن اجتماعات مجلس الوزراء علنية، طالما ليس لدينا برلمان، ليعلم الذين ثاروا من الذى يقف فى وجه تحقيق العدالة.