حينما بلغها خبرُ استشهاد أبنائها الأربعة، قالت: «الحمد لله الذى شرّفنى بقتلهم، وأرجو من ربى أن يجمعنى بهم فى مُستقرّ رحمته» إنها الخنساءُ شاعرةُ العرب، أو تماضر بنت عمرو السلمية، الصحابية المثقفة التى فقدت أخويها معاوية وصخر فى الجاهلية، ثم أسلمتْ وقدّمت أولادها الأربعة فى سبيل الله.
تذكّرتُها وأنا أتابع برنامج «لازم نفهم» للصديق مجدى الجلاد، حين استضاف إحدى أمهات شهداء رفح، فى أغرب لقاء يمكن أن يجرى مع «ثكلى» فقدت للتوّ فلذة الكبد، ابنَها، وعائلها، وفرحةَ عمرها.
دعونا نتعرف على معنى كلمة: «ثكلى» فى المعجم العربى. هو المنبتُ المجزوز المتبقى فى الشجرة، بعد قطع الغصن. واختارت عبقريةُ اللغة العربية هذه الكلمةَ للتعبير عن الأم التى تفقد وليدها، لتصفَ الوجعَ الذى يضرب قلبها بعدما يُبَتر، فتتوجّع مثل شجرة جُزَّ غُصنُها النابتُ، بسكين حادة.
كانت هادئةً، مطمئنةً فى غير ملابس الحداد. لم تفارقُ الابتسامةُ شفتيها، كأنها ظهرت على الشاشة لكى تزفَّ لنا خبر عُرس ابنها إلى أجمل عروس فى الدنيا! يا إلهى! كيف نجحت تلك المحزونة فى أن تُخبّئ وجع قلبها خلف تلك البسمة، ثم تهنئ كلَّ أمهات الشهداء قائلةً لهن: افرحن! لا أزعم أننى شعرتُ بوجعها، كفانى اللهُ وكفى كلَّ أمهات الكون هذا الوجع، لكننى قرأتُ الدهشة فى عينى الجلاد من فرط صبرها فقال لها: «أنتِ مش أم الشهيد، أنت أرض؛ سوف تنبتُ لنا أولادًا كثيرين تقدميهن فى سبيل مصر الطيبة». فظلت تكرر الكلمة التى كانت تختم بها كل جملة طوال مدة الحوار: «الحمد لله». ثم اختتمت الحوار بزغرودة مدوية تحملُ الفرح بقدر ما تحمل من ألم الفقد المُرّ.
فاتنى أن أعرف اسمَها، أو اسم ابنها الشهيد، فحملت هاتفى لأتصل بمجدى الجلاد وأسأله. ثم عدلتُ عن رأيى ولم أفعل. لماذا أريد أن أختصرها فى اسمٍ، وقد اختصرت هى كلَّ أسماء النساء؟! قررتُ أن أحتفظ بها كـ«فكرة»، أكبر من الأسماء والكُنيات. هى أم الشهيد المصرية. هى التى ينطبق عليها عبارة غنّاها فرانك سيناترا: I faced it all and I stood tall، «واجهتُ الصعابَ جميعَها، ومازلت أقفُ شاهقًا».
لكننى عرفتُ أنها عاملة بسيطة فى إحدى المدارس، دخلها 100 جنيه شهريًّا. تعود من عملها لتنكفئ على ماكينة الخياطة لتُزيد دخلها بضعة قروش إضافية تدفع منها أقساط جهاز ابنتيها وتُطعم زوجها المُقعد، وتشترى حقنة لابد أن تخزَ ظهرها لكى تقف على قدميها المنهكتين!
ويبقى سؤال: هل دوّن التاريخُ مثل تلك الزغرودة؟! زغرودة «أم الشهيد»؟