معظم المصريين يتجاوبون مع شروط الحظر. فى جولة حول مصر الجديدة يوم الجمعة، أدركت أن المحال والمطاعم تغلق الساعة ٤:٣٠ أو على أقصى تقدير الساعة السادسة. عندما يتسرب الليل تكون الدبابات قد اتخذت مواضعها وجنود الجيش التزموا أماكنهم والشوارع هدأت، ماعدا بعض الأطفال اللاعبين على بعد خطوات ليس إلا من بيوتهم، أو بعض المارة السائرين على الأقدام استماعا لوقع أقدامهم فى الطرق الساكنة.
الهدوء العام ساد القاهرة الأيام القليلة الماضية. لم نشهد أحداث عنف تهز المدينة. علامة صحية أن الدولة تسيطر على أمنها. الناس تشعر باستعادة الشعور بالأمان بعد استمراء الانفلات الأمنى على مدى ما يقرب من ثلاث سنوات الآن. بعد أن أصابتنا «تخمة» الفوضى يبدو أننا على «رجيم» أمنى. ليس سيئا. الالتزام واجب ومفيد. لكن التساؤلات الآن بدأت فى الظهور. قالت لى صديقة تعمل فى مجال إدارة الأعمال وهى تعكس لسان حال كثيرين:
«ماذا بعد؟ السؤال الأول يجب أن يكون حول ما هو قادم بعد الحظر. كيف ستدار الأمور؟ ثانيا: من مسؤول عن الخسائر الاقتصادية (بما أن أيام العمل أقل من نصف يوم الآن)؟ ثالثا: الإخوان يبدون الآن بمظهر يُرثى له، وهم يدعون لمظاهرات، فتخرج متفرقة وضئيلة الحجم. لكن ربطهم بالإرهاب يصبح أقل وضوحا تدريجيا بما أنهم لا يقومون بتفجيرات وبما أن علاقتهم بما يحدث فى سيناء لا يوثق له بعلاقة مباشرة. رابعاً: خروج مبارك من السجن أغضب الكثيرين. خامساً: من يرون أنفسهم الشباب الثورى من أصدقائنا يشعرون بإحباط من أمور لا يستطيعون التعبير عنها دون مجازفة اتهامهم باللاوطنية. ومن يعشقون جيش بلدهم وليس عندهم أدنى صراع حول الإجراءات الأمنية للمؤسسة العسكرية والحكومة الراهنة يتساءلون أيضا: إلى متى؟ ويعاودون ليسألوا عن الاقتصاد».
تساؤلات وجيهة، أهم ما فيها فكرة طرحها فى الأساس وليس إخراسها وحظر نشرها. لماذا؟.. لأننى بخبرتى فى مجال تحليل المضمون السياسى للخطاب الإعلامى فى الولايات المتحدة وكذلك إسرائيل أثناء حالات الحرب أو العمليات العسكرية، رصدت استراتيجية مزدوجة التأثير وهى الالتزام الكلى بحلول أمنية بحتة دون تردد أو هوادة، مع التباهى بأن إعلامهم داخليا منقسم وليس فى وفاق. ماذا؟! الجدال الإعلامى داخليا ميزة وليس عيبا؟ كيف؟! ذلك لأنك عندما تقول كيف تقوم دولتك بمثل هذا العمل الأمنى أو ذاك؟ يرد عليك الأمريكى أو الإسرائيلى أو الأوروبى «صحيح هذه هى الحلول الأمنية التى تتخذها الدولة، وهى شؤون أمن قومى ولكن اطمئن فمجتمعنا مجتمع ديمقراطى تعددى، انظر فى صحيفة هاآرتس أو النيويورك تايمز مثلا وستجد مقالا داعما كليا للجيش فى عمليته العكسرية كحامى الحمى، وهناك من هو متحفظ على تفاصيل، وهناك أيضا من يقول صراحة: حلولكم الأمنية ستزيد وترد إلينا الإرهاب مضاعفا. نحن لا نحظر النشر وعرض الأطروحات المتناقضة. لكن الحلول الأمنية تسير فى مجراها».
حين تتباهى هذه المجتمعات بتعددية الخطاب الداخلى فى إعلامها مع الالتزام الفعلى التام بالحلول الأمنية، فهى بذلك تُحاول تشكيل مخيلة «الغريب» فى المجتمع الدولى على أن الدولة تقوم بدورها كما ينبغى لها أن تفعل، إلا أن المجتمع يعكس التعددية الصحية الواجبة فى مجتمع ديمقراطى، كما ينبغى له أن يفعل أيضاً. بذلك تكسب مرتين: تفرض رأيها الأمنى للحفاظ على سيادة قرارها فى مصالح أمنها القومى العليا، وأيضا تكسب تعاطف الشعوب الأخرى لتصوير مجتمعاتها وهى فى حالة عصف ذهنى مجتمعى، الكل فيه يمكن أن يُعبر ويجادل بل ينتقد. ولكن تُتبع الحلول الأمنية فى النهاية على أنها نتاج وليست فرضا مسبقا.
مثال على ذلك، أثناء قرع الولايات المتحدة لطبول الحرب على العراق، كان هناك إعلاميون يعلنون صراحة «وطنى يحارب اليوم وأنا مع وطنى». ولكن كان هناك أيضا من يعارضون الحرب من حيث المبدأ والمنطلق. كما كان هناك من يتحفظون فقط على تفاصيل الإجراءات. فى الأخير كان الهدف من هذه «التوليفة» هو هدف أمنى أيضا وهو تصوير المجتمع وكأنه تعددى وليس متجانسا لأن فى التوصيف المتجانس كليا خطر نعت المجتمع نفسه بالفاشية ــ وهو النعت الذى يخيف الشعوب من بعضها أكثر من خوف الشعوب من النظم السياسية المنعوتة بنفس الصفة. لذلك الأطروحة فى أدبيات علاقة الإعلام بحالات العمليات الأمنية هو أن تعددية الفكر فى الإعلام الداخلى تفيد ولا تضر الحلول الأمنية ذاتها.