تزايد الحديث فى الأيام الماضية عن ضرورة المصالحة الوطنية بين المصريين، بين القوى السياسية والاجتماعية المصرية، وبين مختلف شرائح المجتمع المصرى. المؤكد أن مصر فى حاجة إلى مصالحة وطنية شاملة، ولكن السؤال هنا على أى أساس تُبنى هذه المصالحة؟
مؤكد أن خبرة السنوات القليلة الماضية كشفت بشكل جلى عن أهمية وجود دولة قوية فى مصر، دولة تظلل أراضيها، تبسط سيادتها عليها وتفرض سلطاتها على الجميع، توفر الحماية لكل مواطنيها، لا تخضع للضغوط ولا ترضخ للابتزاز، دولة مركزية قوية تمتلك قدرات تمكنها من فرض الأمن وإنفاذ القانون.
ماذا جرى على مدار السنوات القليلة الماضية؟ حدث أن الدولة بدأت تضعف وتصاب بالوهن مع شيخوخة الحاكم (مبارك)، وبدا التنافر بين مؤسساتها على خلفية مشروع توريث السلطة لنجل الرئيس العجوز، أدرك الوريث أن جيش مصر لا يؤيد مشروع التوريث، فتحول عنه إلى الشرطة، أبرم صفقة مع وزير الداخلية حبيب العادلى، اتفقا عبرها على تقوية وتعزيز قوات الداخلية لتقترب من قدرات الجيش، ومن ثم يكون بمقدروها فرض مشروع التوريث على الأرض، دب الوهن فى مؤسسات الدولة التى جرى تخصيصها لخدمة الوريث ومشروع التوريث، قفز معدل التزوير فى انتخابات البرلمان عام 2010 متجاوزا المعدلات المعتمدة سابقا. تراجع الحزب الوطنى عن تفاهماته مع الجماعة، فخرجت من سباق الانتخابات ومعها قوى سياسية أخرى، فكانت بداية مرحلة الانهيار التى جاءت سريعا فى الخامس والعشرين من يناير. لم يطرح أحد مصالحة وطنية مع الحزب الوطنى ورموزه، تمسكوا بقانون العزل وبمحاكمة رموز النظام بمن فيهم الرئيس العجوز، ووضع الجميع فى السجون. نعم يستحق مبارك ورموز نظامه السجن لقاء ما ارتكبوا من جرائم فساد وإفساد وبيع مصر بأبخس الأثمان، إفقار مصر والمصريين لحساب مجموعة راكمت المليارات، وكان هناك من لم يجد قوت يومه أو قدرة على سداد مصروفات الدراسة شبه المجانية، ففضل مغادرة الدنيا بينما كان هناك من لديه أكثر من طائرة خاصة قيمة الواحدة مئات ملايين الجنيهات. كان منطقيا أن يسقط مبارك ويقبع الوريث وشلته فى السجن. دارت الأيام سريعا وجاء حكم المرشد والجماعة وفى سنة واحدة فاقت جرائمهم ما ارتكب «الوطنى» فى ثلاثة عقود، سرقوا ونهبوا مصر، خططوا لبيعها بأبخس الأثمان، ساروا على طريق العمالة لأمريكا وقطعوا شوطا كبيرا، وعندما احتج الناس كان السحل والتعذيب والقتل، على أسوار قصر الاتحادية جرى ربط وتعذيب المصريين، وأشرف رجال مرسى على عمليات التعذيب والضرب، وتم اصطياد مشرفى صفحات كشف الجماعة على مواقع التواصل الاجتماعى، مثلما تم اصطياد صحفيين شرفاء كشفوا قدرًا من جرائم الجماعة (الشهيد الحسينى أبو ضيف). وعندما قرر الناس فى مصر الخروج على ظلم مرسى، والمرشد والجماعة، كانت عمليات القتل والحرق، عمليات قتل رجال الشرطة بدم بارد وسحلهم والتمثيل بالجثث، عمليات استدعاء الإرهابيين من شتى دول العالم للجهاد ضد الشعب المصرى الذى يطلب حريته واستقلاله، عمليات حرق ونهب الكنائس وتدنيس دور العبادة من مساجد وكنائس، ترويع الآمنين بالسلاح.
جرى كل ذلك من جانب جماعة الإخوان، ذراعها السياسية، حزب الحرية والعدالة، وذراعها العسكرية عابرة الحدود والجنسيات. قتلوا مصريين شرفاء خرجوا للمطالبة بالحرية والديمقراطية وعودة الهوية المصرية.
قدر الله لمصر أن يكون لديها جيش وطنى، وأن يكون على رأسه الفريق أول عبد الفتاح السيسى، فكان قرار حماية مصر والمصريين من ترويع الجماعة ورفاقها، دفعوا ثمنا باهظا لقاء حماية مصر وتأمين المصريين رغم الضغط المسلح على الأرض فى القاهرة والمحافظات وفى شمال سيناء، والضغط السياسى الدولى من واشنطن والعواصم الغربية. نجحت مؤسسات الدولة المصرية فى السيطرة على الموقف، وتم اعتماد خريطة طريق توافق عليها الجميع عدا تيار الإسلام السياسى، هنا بدأ البعض يطرح فكرة المصالحة الوطنية مع تيار الإسلام السياسى، الشكل يبدو منطقيا والهدف يبدو وطنيا، والإطار تغلب عليه الحكمة والرؤية، ولكن تأمل المشهد برمته يقول إن هناك من لا يمتلك شجاعة السير على أرضية وطنية ويفضل الراحة فى منتصف الطريق، فلا هو تنحى جانبا من البداية ولا كانت لديه شجاعة مواصلة السير، قرر التوقف فى المنتصف فى وقت يواصل الطرف الآخر عمليات القتل والحرق والاستقواء بالأجنبى على البلاد. فى تقديرى أن المرحلةالتى تمر بها البلاد لا تحتمل مواقف أنصاف الرجال ولا المرتعشة أياديهم، بل نحن فى حاجة إلى رجال دولة يضعون أساس مصر الحديثة المتصالحة مع ماضيها وحاضرها والمتطلعة على الدوام إلى المستقبل، نعم نحن مع المصالحة الوطنية الشاملة ولكن التى تستند إلى أسس واضحة ومحددة، منها تطبيق القانون على الجميع، وحل الأحزاب القائمة على أساس دينى، والفصل بين العمل السياسى والعمل الدعوى تماما، مَن يرغب فى العمل السياسى عليه أن يشكل حزبا سياسيا على أرضية وطنية ولا يقحم الدين فى القصة، ومَن يرغب فى العمل الدعوى فأهلا وسهلا به تحت مظلة وزارة التضامن الاجتماعى ولا دخل له بالسياسة، هذه هى قواعد وأسس المصالحة الوطنية المقبولة من المصريين ولا مكان فيها لكل من حمل السلاح فى وجه الدولة المصرية وعاث فسادًا فى أرض مصر.