مشدوهاً نظر الشعب المصرى وكثرة من مثقفيه إلى الموقف الأمريكى والأوروبى من التطورات التى جرت فى مصر منذ خروج عشرات الملايين فى الثلاثين من يونيو الماضى، وعزل الرئيس محمد مرسى من الرئاسة المصرية، حتى جاء «أسبوع الرحيل» الذى انتهت فيه محاولة الإخوان المسلمين لعودة عقارب الساعة إلى الوراء، حيث كانت دولتهم فى طريقها إلى استكمال مرحلة «التمكين» التى بعدها لا تكون «مدنية» ولا «ديمقراطية» ولا «حداثة». كانت البلاد باختصار تسير نحو إخفاق كبير آخر فى مسيرتها التاريخية التى طالت أكثر مما ينبغى، للوصول إلى تحقيق الحلم الذى ذهب إليه الآباء المؤسسون للدولة المصرية، ولكن الشعب المصرى كان له رأى آخر وثورة أخرى غير تلك التى سلبت وسرقت وذهبت إلى حيث سارت إيران ومثيلاتها من الدول من قبل.
رد الفعل الأوروبى والأمريكى كان مدهشاً للمصريين حينما جرت المناظرة الأولى بين الساسة والمثقفين والكتاب والإعلاميين فى واشنطن وعواصم أوروبية مهمة حول عما إذا كان الحدث المصرى ثورة شعبية أم انقلاباً عسكرياً.
كان الانحياز واضحاً منذ اللحظة الأولى لفكرة «الانقلاب» ومن بعده سار مجرى الحديث عن الكيفية التى تتم بها إعادة المسيرة المصرية إلى الوراء بالتهديد والوعيد تارة، وبالإغراء والغواية تارة أخرى. وسرعان ما جاءت المناظرة الثانية مع تطور الأحداث التى لخصها ما عرف بـ«اعتصامى رابعة والنهضة»، ورغم ما كان معروفاً أن كليهما ليس القصة كلها، وأنهما كانا مجرد قاعدتين للحركة وشل طاقة الدولة ومنع خريطة الطريق إلى الديمقراطية من التحقق بوسائل شتى من العنف، وصلت إلى الاستعانة بعناصر السلفية الجهادية الإرهابية التى تتلامس أكتافها مع التنظيمات الإرهابية المعروفة فى العالم وتنظيم القاعدة فى مقدمتها. ومرة أخرى كان الموقف الأوروبى والأمريكى يسير فى اتجاه تأييد مواقف الجماعة التى بدأت تلعب بالورقة الديمقراطية من خلال الحقائق المقلوبة لشرعية تجرى فى ظل دستور ثيوقراطى، وانتخابات تجرى لمرة واحدة.
لم يكن الأمر يحتاج الكثير فى التجربة الغربية التاريخية لفهم أن الإخوان المسلمين يعيدون التجربة الألمانية والإيطالية الفاشية والنازية بحذافيرها. ومع ذلك كان الرأى الذى ذاع عبر المحيط الأطلنطى وعلى اتساعه أن «الصندوق» قال كلمته وإنه لا يكفى الاعتراض الشعبى عليه، وإنه على المصريين أن يمضوا فى الطريق إلى آخره حتى ولو لم يكن هناك سبيل بعد ذلك إلى عودة أو تصحيح أو ديمقراطية.
ضع المناظرة الأولى التى قادت إلى الانقلاب، فوق المناظرة الثانية التى انتهت إلى أن عودة الإخوان من خلال التفاوض والشمول inclusiveness هو السبيل الأمثل إلى الطريق السياسى الذى تعرفه البلدان المتحضرة!. ولم يكن الأمر منطقاً يبنى وإنما بدأ معه العقاب والتهديد بما هو أكثر، فغابت طائرات وأسلحة آن أوان تسليمها، وخرجت كلمات وتعبيرات لا يليق استخدامها بين دول قالت لسنوات إن علاقتها بمصر «استراتيجية». التعامل السياسى المصرى مع هذا الموقف أمر ومحاولة فهمه أمر آخر، وهذا هو ما يهمنا فى هذا المقام لأنه لا يمكن بناء تعامل ناجح دون فهم الكيفية التى انقلبت فيها دول «ديمقراطية» ضد «الإرادة الشعبية»، والسبل التى وصلت بها عواصم مدنية وليبرالية سقطت أبراجها ونسفت أنفاق مواصلاتها إلى الوقوف إلى جانب الإرهاب ودعوة مجلس الأمن «للتشاور» حول الحالة المصرية.
ورغم تعدد الكلمات والتعبيرات فقد بدا باراك أوباما وأنجيلا ميركل تحديداً وكأن كرامتهما الشخصية جرحت، لأن مصر تنجح فيما لم ينجح فيه الألمان عام ١٩٣٣ والإيرانيون عام ١٩٧٩.
لا يمكن فهم هذا الوضع دونما العودة إلى «المفهوم السياسى» الحاكم فى الدول الغربية خلال السنوات الماضية. فإذا كانت الدول الحديثة يحكمها فى أمنها القومى ما يسمى «المبدأ العسكرى The Military Doctrine» الذى يحدد مصادر التهديد وكيفية مواجهتها باستخدام أدوات الدبلوماسية والسياسة والعنف المسلح (الحرب) إذا لزم الأمر، فإن سياستها الخارجية يحكمها «المفهوم السياسى The Political Concept» الذى يحدد الأصدقاء والحلفاء، والقريب والبعيد بين الدول، ويتم من خلالها فهم الدول والأمم الأخرى والنفاذ إليها بالتأثير والنفوذ. وكان ما شهدناه فى الدول الغربية خلال الفترة الماضية هو حقيقة «مفهوم سياسى» أثبتت الوقائع أفوله، فكانت النتيجة التخندق داخله وتفسير الوقائع الجيدة لكى تتناسب مع «المفهوم»، أو التجول داخل حالة من الارتباك الذى قد يكون طريقاً إلى مفهوم سياسى آخر، أو إلى سلسلة من الحماقات والأخطاء التاريخية.
«المفهوم السياسى» الذى عاشته الدول الغربية تجاه العالم العربى تغير مرتين منذ بداية هذا القرن. فى الأولى أن كان نمو الحركات الإرهابية «الإسلامية»، وقيامها بما قامت به فى نيويورك ولندن ومدريد وباريس، نتيجة ذيوع « السلطوية» خاصة العسكرية بين الدول العربية، ومن ثم صار الحل هو الإطاحة بهذه النظم حتى بالتدخل العسكرى المباشر، كما جرى فى العراق، على أن يحل محلها «المجتمع المدنى» الذى امتدت له الأيدى والمعونات.
ولكن فشل حربى العراق وأفغانستان نقل المفهوم نقلة كيفية أخرى من المجتمع المدنى إلى الجماعات «الإسلامية» المعتدلة، والأقرب إلى ثقافة بلدانها، والتى يستخدمها السلطويون «كفزاعة» لاستمرارهم فى السلطة. المفهوم الأول تبنته إدارة بوش الابن، والثانى كان هو الذى هيمن على عقل إدارة أوباما، وفى الحالتين كانت أوروبا تلحق وتتبع. ولعبت قوى كثيرة فى الغرب والدول العربية دورها فى بناء المفهوم بما فيها تلك «المدنية» الليبرالية التى يأست من التغيير من ناحية، وتصورت أن التجربة التركية يمكن أن تكون المثال الذى تسير عليه الدول، ووجد الجميع أن «التطور الطبيعى» لحركة الإخوان هو أنه بعد نضجها فى السلطة والديمقراطية سوف تصير نوعاً من الأحزاب الديمقراطية المسيحية المحافظة فى الدول الغربية.
ما جرى بعد ذلك فى مصر كان مناقضاً تماماً لكل ما احتوى عليه «المفهوم»، فالإخوان المصريون كانوا باتفاق الباحثين لهم جذور «قطبية» متشددة، ولم يكن لديهم مانع من التحالف مع قوى كثيرة أكثرها متطرف لا يمانع التكفير والإرهاب. وهؤلاء سعوا بالفعل للتلاعب بالفعل الدستورى بإعلانات دستورية ديكتاتورية، وأقاموا دستوراً لا يعرف التوافق ويقضى، وبالتأكيد لا يطور، على المسار الديمقراطى المصرى، ويأخذه إلى دولة ثيوقراطية غير مدنية وهو الاتجاه العكسى للدولة المدنية الديمقراطية.
كانت حركة الإخوان ظاهرة لكل عين ترى أنها تسعى إلى «التمكين» الذى يعنى أن الانتخابات والصناديق لا تجرى إلا مرة واحدة يقول فيها الشعب كلمته وبعدها ترفع الأقلام وتجف الصحف، ولا يجرى إلا عملية النفاذ إلى صلب السلطة فتكون «الأخونة» التى تحضر للسيطرة، أما بعدها فلا يكون إلا الحريق كما فعلت عناصر الإخوان بالفعل. كان «المفهوم» يرتج بحكم الوقائع، فكان هناك الإنكار أولاً، ثم العودة إلى المفهوم القديم للسلطة العسكرية القاهرة ثانياً، والدخول ثالثاً من جديد فى مرحلة بناء مفهوم آخر فى مرحلة مضطربة بطبيعتها بلغ فيها الاضطراب مبلغه عندما خلط الليبراليون فى الغرب ومصر بين «الليبرالية» و«اللا عنف Pacifism» حيث تكون القوة فى حد ذاتها غاشمة وظالمة، وكأن الليبرالية الغربية لم تدخل فى حرب عالمية من أجل مواجهة الفاشية والنازية والشيوعية.