يعد الجيش المصرى ومنذ أسسه والى مصر محمد على باشا من بين الجيوش القليلة فى العالم التى توصف بأنها جيوش وطنية، بمعنى أنها لم تستند فى تأسيسها إلى عوامل انقسام أولية من دين، طائفة، عرق أو أساس جغرافى، فهو جيش وطنى يضم كل فئات المصريين، يقوم على التجنيد الإجبارى ويعتبر التهرب من أداء الخدمة العسكرية مخالفة مخلة بالشرف تحرم المتهرب من الانخراط فى العمل لدى مؤسسات الدولة، بل وتقف حائلا دون دخوله العمل السياسى عبر الترشح للمناصب التنفيذية أو خوض الانتخابات البرلمانية.
تركيبة الجيش المصرى على هذا النحو هى التى حالت دون وقوع حروب أهلية فى مصر، ولعل المثل الأحدث على ذلك هو ما جرى بعد الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، فقد انهار جهاز الشرطة وغابت معظم مؤسسات الدولة وجرى تعطيل بعضها، هنا تدخل الجيش وسيطر على الأوضاع الأمنية فى البلاد ووضع خارطة طريق لنقل البلاد إلى حكم القانون، لكن جماعات الإسلام السياسى تلاعبت بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة وانتزعت منه السلطة انتزاعًا بعد أن هددت بإغراق البلاد فى حمامات الدم. عاد الجيش إلى ثكناته دون أن يتخلى عن مراقبة الأوضاع فى البلاد، أساءه كثيرًا تآمر الجماعة وتطاولها. على الأمن القومى المصرى، حاول لعب دور الوسيط فرفض الرئيس، تصاعد غضب الشعب وتصاعدت ثورته من جديد، وظلت المشكلة هى من يحمى الشعب من عنف الجماعة ودمويتها، فالجماعة استدعت الأهل والعشيرة من غزة (مقتلى حركة حماس) وجلبت الأنصار من الخارج (باكستان، وأفغانستان وتركيا) وهددت كل من سيخرج على حكم المرشد والجماعة بالقتل.
شكل شباب مصرى حركة «تمرد» وبدؤوا فى جمع التوقيعات لسحب الثقة من مرسى، مرشده والجماعة، وحددوا يوم الخروج فى ثورة جديدة فى الثلاثين من يونيو، كان معروفًا أن العنصر الحاسم فى الخروج وإسقاط المرشد وجماعته هو مواطن المصرى العادى (حزب الكنبة) الذى وقع على وثيقة تمرد، لكنه لن يخرج للتظاهر ما لم يشعر بالأمن وتتوفر له الحماية، فالمصرى يعلم جيدا مدى عنف الجماعة ورفاقها ودرجة الاستعداد لديهم لقتل المعارضين والفتك بهم. كان واضحًا أن الثلاثين من يونيو يمكن أن يكون ثورة حقيقية تطيح بالمرشد والجماعة، ويمكن أن يكون يومًا عاديًّا يمر كغيره من أيام زمن حكم المرشد والجماعة، مظاهرات متوسطة تطوف الشوارع ثم تعود نهاية اليوم منهكة تعبة وتخلد للراحة، وقد تنتهى سريعًا فى حال قررت الجماعة استخدام السلاح وترويع المتظاهرين، فللجماعة تاريخ طويل فى القتل والترويع، نشر الفوضى فى ربوع الوطن. كان واضحـًا للجميع أن العامل حاسم فى الثلاثين من يونيو هو توفير الحماية والطمأنينة للمتظاهرين، وكان طرفًا واحدًا بمقدوره توفير ذلك، الجيش المصرى، وحده الجيش الذى يملك تحديد طبيعة ما سيجرى فى الثلاثين من يونيو، فإذا وقف مكتوف الأيدى والتزم الحياد، قل عدد المتظاهرين وفتك بهم الإخوان وأهلهم وعشيرتهم، وإذا خرج وأعلن توفير الحماية للمتظاهرين، تحول الثلاثين من يونيو إلى ثورة، تطلعت القوى السياسية والحركات لشبابية والقطاع الأكبر من المصريين إلى وزير الدفاع وماذا سوف يقول. خرج الرجل ليعلن فى أكثر من بيان أن القوات المسلحة لن تسمح بترويع المصريين، ستوفر الحماية للشعب، ليشعر الشعب بالأمان، فقواته المسلحة لن تسمح بتعرضه للاعتداء. نتيجة بيانات الطمأنة الصادرة عن القوات المسلحة المصرية خرج أكثر من ثلاثين مليون مصرى فى الثلاثين من يونيو ٢٠١٣ مطالبين بسقوط حكم المرشد والجماعة، هدد أهل المرشد وعشريته بتحويل البلاد إلى ساحة قتال وهددوا بإشعال حرب أهلية فى البلاد، تقدم الحلفاء فى الغرب لدعم المرشد والجماعة ضد الشعب والجيش، لم تتراجع القوات المسلحة أمام تهديدات الجماعة ولا ضغوط الغرب، وقرر الفريق أول عبد الفتاح السيسى الانحياز إلى الشعب. هنا تطلعت العيون باتجاه الفريق أول عبد الفتاح السيسى ليصدر بيان عزل مرسى وإعادة صياغة المرحلة انتقالية من جديد، وعندما شعر الرجل بوطأة الضغوط الغربية وتصاعد التهديدات الأمريكية لمنع بيان عزل مرسى والتهديد باعتباره انقلابًا عسكريًّا لجأ السيسى إلى الشعب وطالبه بالنزول فى السادس والعشرين من يوليو، فتكرر مشهد خروج أكثر من ثلاثين مليون مصرى ومصرية لبوا نداء الرجل وقالوا للعالم إنها ثورة شعبية لا انقلاب عسكرى. السؤال هنا: هل بعد كل ما فعل الجيش تعود بعض الأصوات المراهقة للحديث من جديد عن حكم العسكر؟ لقد قرر الجيش الانحياز إلى الشعب وخاض مواجهة شرسة مع مسلحى تيار الإسلام السياسى فى شمال سيناء وعدد من المحافظات، وفر الأمن والأمان لمصر والمصريين، وخاض معركة دبلوماسية عنيفة مع حلفاء الإخوان فى واشنطن وبرلين ولندن، ولو كان تخلى عن المعركة فى أى لحظة لانهارت مصر ولتحولت بلادنا إلى سوريا جديدة، وربما صومال أيضا. هل بعد كل ذلك يوجد لدينا من يتحدث عن «حكم العسكر»؟