1- قاعة كبيرة تحمل الآلاف من الحضور.. لا يتكلمون.. فهم فى انتظاره يدخل.. يظهر محمود درويش بابتسامة طفل وينحنى بتحية أبهة زعيم.. يقرر أن يكتب قصيدته الارتجالية الوحيدة أمامهم.. ويصفق الجمهور..
2- أتذكر المرة الوحيدة التى قابلته فيها بشارع الحبيب بورقيبة بتونس. كنتُ صغيرًا.. نزلت من الفندق متوجهًا للمسرح.. أجلس فى مقهى زجاجى جميل أشرب القهوة.. ما أجمل قهوة الشتاء وأنت وحيد.. والأجمل أن تكون بين يدى حبيبة تربت على كتفك وتداعب خصل شعرك كطفل يقرر النوم فى الطريق..
لكن لا مانع من أن القهوة بالشتاء وحيدا فى مقهى زجاجى لها مذاق آخر.. خصوصا بعد أن يرمى الشتاء الضباب كأحد أبنائه على الزجاج ليشعرنا بالدفئ.. وسط ضباب الزجاج ودخان القهوة وجريدة بالفرنسية ألاحظ محمود درويش يسير بالشارع.. فكرت للحظات هل هو بالفعل أم شخص يشبه.. لكنى قررت أن ألحقه وأسلم عليه.. جريت.. هو يمد.. وأنا أهرول.. حتى لحقته.. سألته سؤال ساذج.. هل أنت محمود درويش؟.. ابتسم وعرف أن السؤال من الدهشة ليس من الجهل..
وقال: نعم أنا.. لم أقل له إنى أحب كلماتك، وكم كانت تلاحقنى فى كل مناسبة.. ثم صارت تمرينا من تمارين الوحدة اليومية.. لم أخبره باسمى ولا بهويتى.. كل ما طلبته منه أن يشرب فنجان القهوة معى.. ابتسم ورحب.. ودخلنا المقهى.. وجدته طفلًا يبتسم ويضحك بصوت عالٍ.. لا تمر دقيقة دون ضحكة.. كان خفيف الظل.. وأخرجت له بعضًا مما أكتب وقرأته بعد أن طلب منى هذا.. ثم أخرج قصيدة وقرر أن يقرأها لى.. ثم استأذن وودعنى على أمل أن نلتقى بمصر..
3- عرفت درويش جيدًا بصوته الجهورى الذى يشبه وحدتى.. هادئ جدا لأنك دائما تسمعه وحده دون هممات الحضور وصاخب جدا لأن تشعر لوهلة أن هناك أعدادًا جمة تحضره.. صوت محمود دريش داخل القصيدة مثل طفل جاء إلى العالم بلا زفة.. مثل طفل سمع الرصاص حول رأسه كصوت ارتطام كرة طفل فى حائط جارهم.. مثل طفل رأى البيوت تنهار حوله بقذيفة طائشة كفنجان قهوة يفور..
صوت درويش يعيش كظلك.. تحزن.. تفرح.. تحب.. تجوع.. تئن.. تجن.. تهرول.. تصعد.. تهبط.. تدمى.. تخون.. تتوب.. وتصل بكلماته للنشوة وأنت تقول يا رب.
4- لو أدرك درويش أن جداريته كونية ما كان ليخط حرفًا -أحب الله فأعطاه نور الكلمات- كان يملك رؤية الريفى وتقديسه للموت -وفلسفة ساكنى البحر وهم يملكون المدى واللا نهاية- وشجاعة المحارب الذى ابتسم عندما رأى عدوه يهرول ناحيته، تشعر أنه دائمًا فى انتظار امرأته التى لن تأتى لكى يكتب القصيدة..
5- تذكرت أن محمود درويش لم يتكلم.. لم يقل قصيدة.. ثم نزل إلى الحضور وبدأ فى توزيع أوراقه علينا..
ويقول.. (أنا قصيدة صغيرة لم أكتبها بعد. أنا قصيدة صغيرة لم أكتبها بعد). وخرج وسط تصفيق مخلوط بنشيج الحاضرين