لصلاح عبد الصبور أمير شعراء الحداثة المصرية قصيدة تحمل عنوان "عودة ذي الوجه الكئيب" وفيها يتحدث عن وحش عاد ليحتل مدخل المدينة ويسأل الجميع:من خالق الكون؟ وكل الإجابات لم تعجبه، فقتل أصحابها، عدا إجابة واحدة نجا أصحابها؛ وهذه الإجابة هي: أنت أيها السيد العظيم؟ وعلى الرغم من كون الإجابة تتنافى وأبسط قواعد العقل، وتصطدم بكل حقائق الأمور؛ فإنها كانت الإجابة الوحيدة المقبولة!
هل تعرفون الجزية؟ سيقول البعض: إنها إتاوة يدفعها غير المسلم للمسلم الذي احتل أرضه، وفي هذا تزييف لحقيقتين؛ تعريف الجزية نفسها، وتوصيف جهاد المسلمين؛ فالجزية هي ضريبة دفاع يدفعها غير المسلم للمسلم الذي فتح بلدًا يقطنها غيره مقابل الدفاع عن أراضيه؛ فإن عجز المسلم عن الدفاع ردها لمن أخذها منها وقد حدث هذا بالفعل، وهي أقل من صدقة الفطر التي تفرض على كل مسلم، ولا تفرض إلا على الرجال القادرين على الحرب، وحال حاجة الجيش لهم لا يدفعون الجزية، بل يحصلون على رواتب كالجند المسلمين... وما علاقة هذا بما نحن فيه الآن؟
لكل دولة منطلقات وغايات وكي تحقق هذه وتلك تستخدم آليات وطرق ترى أنها هي الأنسب، وبالتجربة يثبت نجاح الآليات أو إخفاقها فتتخلى الدولة عما يعيق تحقيق أهدافها أو يكون له بديل أفضل وتتمسك بما يحقق، والسؤال: ماذا لو سقطت هذه الدولة بسبب آليات محددة؛ فهل نبني دولة جديدة ونحن نحتفظ بأسباب السقوط، وإذا كنا نحن المسلمين تخلينا عن الجزية ورأينا أن الأقباط مواطنون لا رعايا، وأن الدولة العادلة تنظر لبنيهاعلى أنهم متساوون في الحقوق والواجبات- وإذا كانت الدول تغير خططها الاستراتيجية برمتها لما يحقق الحياة الحرة الكريمة، وإذا ما كان سقوط النظام المصري كان لشيوع الفساد المؤسسي المدعوم بأجهزة القمع التي كانت تلفق التهم لكل معترض على فساد، والتي كانت تحبس وتعذب وتقتل بلا رقيب ولا حسيب... فهل نعيد آليات القمع مرة ثانية، ثم نقول: تلك موجبات دولة الديمقراطية!
إن ما كان للهدم لا يصلح للبناء؛ فثمة جهاز يعتبر نفسه فوق الدولة وفوق القانون وفوق الإنسان، ولدينا شهداء وثوار يسعون لدولة قانون إنساني، فكيف يجتمعان؟
ربما يرى البعض في هذا المقال ترفًا أخلاقيا، وربما يراه البعض رأيا في غير وقته، لكن...
ما الذي جعل لهذه الجماعات الإرهابية هذا الرصيد الهائل من الأعضاء؟ أليس هو شعور الناس أنهم لا يستطيعون أخذ حقوقهم في دولة القمع والفساد؟
ما الذي جعل لهذه الجماعات الإرهابية هذا الرصيد من المؤيدين وغير المعترضين؟ أليس هو شعور الناس بفداحة ما يرتكب في حق أبنائهم.
سيقول البعض: إنه جهاز لجمع المعلومات، وأقول لهم إذن: ما صلاحيات هذا الجهاز في التوقيف واقتحام البيوت؟ هل يستطيع أحدكم زيارة مبانيهم والاطلاع على وسائل التعذيب وبيان مدى إنسانيتها.
إن حربنا ليست مع الإرهاب الإسلامي؛ فالإرهاب هو الإرهاب سواء كان من فرد شرطة تجاوز صلاحياته، أو من رجل تعسف في فهم النص، وأراد إجبار غيره على تنفيذ تعسفه، إنه من كل من امتلك سلاحا فأعمله في خلق الله.
إن عودة أمن الدولة تعني عودة ذي الوجه الكئيب، حيث لا حرية ولا عدالة، لا أمن ولا استقرار، لا تنمية ولا تقدم، ومهما كانت التحديات التي تواجهنا ومهما كانت العوائق؛ فإن التحدي الأكبر هو أن نحفظ للإنسان إنسانيته بدلا من أن يتحول إلى وحش أو ضحية.
لا نريد أن نساوم الآن بين الحرية والأمن وكأنهما نقيضان، لقد وجد الإرهاب في ظل أمن الدولة وأشباهه، وازدهر على عينه ورعايته، وبدا النظام البائد كمن وضع وحشا في قفص، وحارسا خارج القفص، وصار الشعب المصري يدفع للحارس الذي هو على الحقيقة وحش أيضًا.
ثمة مساران أمامنا؛ أولهما- آليات الإدارة وهذا يؤدي إلى دولة حرة كريمة وهو التنمية الشاملة، عبر آلياتها المتعددة؛ إصلاح الأجور، توفير فرص العمل، دعم الاستثمار بمختلف أنواعه. والمسار الثاني هو آليات السيطرة وهذا يؤدي بنا إلى إنهاك متزايد لإمكانيات دولة ترسف في أغلال الديون وعجز الموازنة، وإلى تكوين جماعات لحماية مصالحها وإلى تحويل الوطن إلى سجن كبير، إن قوة البلطجة والفساد سببه تغول الأمن على التنمية.
إن جنيهًا يوجه إلى التعليم أو الصحة أو النقل سينتج لنا مواطنًا صالحًا يخدم نفسه ووطنه، وإن هذا الجنيه حين يوجه إلى شراء قنبلة غاز أو آلة تعذيب أو مكافأة لعمل خارج الوقت لأحد زوار الفجر، لا يؤدي إلا لشيوع اليأس والإحباط وعندها فنحن في انتظار ثورة.