جنون أو رومانسية أو سذاجة أن تقارن بين قوة فأس فلاح مصرى وقوة بارود ودبابات إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس خارجة للتو من انتصار ساحق على منافسيها، فارضة سيطرة تامة على مقدرات شعوب مقهورة، فرضت عليها وصايتها، محددة مصيرها كيفما شاءت أو أرادت.
لكن من يفكرون «خارج الصندوق» الذين يرون فى الواقع ما لا يراه كثيرون غيرهم، أو ينتبهون إلى تغيرات فى هذا الواقع لا ينتبه إليها سواهم، هؤلاء هم القادرون على قياس توازن قوى أو رجحانها بطريقة مغايرة وغير تقليدية تماما.
هكذا كانت تجربة الفلاح سعد زغلول ورفاقه الذين رأوا فى هذه الأمة قدرة لا يراها ملك مستبد جهول ولا احتلال غاشم مغرور.
كان هذا هو جوهر رؤية الباشوات الفلاحين الذين عرفوا البيئة التى نشؤوا فيها واستوعبوا أيضا بيئات أخرى سياسية واجتماعية داخل مصر وخارجها عبر تعليم راق لعقول قادرة.
كانت الثقة فى قدرات المصريين جوهر الولاء المطلق له فى نضاله لاستعادة حقوقه من المستبدين ملكا واحتلالا.
وكان هذا الولاء المطلق للأمة حقيقيا غير مصطنع، بحيث لم يتمكن رجال الملك أو الاحتلال من تزييفه أو ادعائه. ومن هنا مثل هذا الولاء عودة لروح هذا الشعب بعد طول غياب.
وكما كان ذلك عودة للروح -وهى خطوة مهمة- إلا أن ما فاقها، وكان أكثر أهمية هو عودة الوعى الذى كان قد اضمحل وتفتت تحت تأثير عقود من الاحتلال وقرون من الاستبداد، فرأينا إعادة لأنماط الجهل والتطرف الدينى والسياسى، من فتنة طائفية وتغريب يأخذ الضار فقط، وتبشير مسيحى استهدف مذهب المسيحيين المصريين واستفزهم أكثر من المسلمين.
الإنجاز الأكبر لسعد باشا كان فى عودة الوعى، خصوصا فى الفتنة الطائفية، التى قضى عليها تقريبا بالعودة إلى صحيح الإسلام وإلى التجربة الأولى للتطبيق، سواء مع الرسول الكريم (ص) أو الخلفاء الراشدين، خصوصا سيدنا عمر الذى فتح مصر استجابة لدعوة أهلها بعدما عرفوا ما يضمنه لهم الإسلام من حرية عقيدة ومن قيم تسامح وتعايش وتساند فى مواجهة العدوان -أيا كان مصدره-.
بعودة الروح، وعودة الوعى، تمكن سعد من صناعة أداة صلبة هزم بها الملك والإنجليز، وكانت عصية على الانثناء فى مواجهتهما طوال 3 سنوات لإصدار دستور يعيد إلى الأمة قدرها، وطوال 5 سنوات لاستعادة هذا الدستور «بعد إلغاء الملك له»، وحيث لم يكن من بد أمام الاحتلال والملك إلا فى استعمال ميراث فقهاء سلاطين وخلفاء الاستبداد الذين اجتثوا الشورى من الإسلام، واستخدموا «البيعة» لمن لا حق له فيها، خصوصا أن علماء الإسلام -لا السلطان- قد رأوا أنه لا بيعة إلا لله وللرسول بوصفها ثقة مطلقة ودائمة بدوام إسلام صاحبها.
وعليه بدأ الملك والإنجليز فى استخدام ضحالة وهوس حسن البنا وجماعته للقضاء على الوعى (بعد الفتح المهم للأستاذ ثروت الخرباوى حول حديث ملنر لجريدة «مانشستر جارديان» بعد عودته من مصر خالى الوفاض، لا بد من ملاحظة أن محاولات ذلك كانت منذ اللحظة الأولى لفشل الإنجليز فى مواجهة ثورة المصريين).
وعليه بدأ كلاهما السعى للقضاء على الروح التى عادت إلى المصريين فسحقتهما وقهرت مخططاتهما لإعادة هذه الأمة لحظيرتهما.
ولعل الاغتيال المعنوى الذى تعرض له البرادعى غير مسبوق ولا يقارن بما تعرض له النحاس وسعد قبل ذلك خصوصا من «الجماعة الضرار» التى كانت حلقة فى استخدام أجهزة مخابرات الاستبداد والاحتلال لا تختلف عما لحق بها من جماعات تسطيح دينى وتلبيس سياسى، فمثلا نجد فكرة أن الزكاة قادرة وحدها على حل مشكلات الأمة اقتصاديا، قد تعرض لها الجميع من حسن البنا إلى الحوينى، رغم ما فى الفكرة من سطحية لاتنطلى إلا على عوام لا يعرفون أن الضرائب 10 أضعاف الزكاة ولا تكفى والعجز مستمر فى الموازنة والديون قائمة، وأن لا حل إلابزيادة الاستثمار ومن ثم الإنتاج.
ولأن اغتيال الفكرة أصعب من اغتيال الشخص -حتى معنويا- فإن إعادة تدشين كيان سياسى قادر على إعادة الروح وإعادة الوعى، ولا يدين بالولاء بعد الله إلا للأمة، وعصى ممانع بفكرته وتاريخه على الاغتيال والتشويه -إذا تم إنقاذ هذه الفكرة وذلك التاريخ- عبر بناء حزب حقيقى قراره فى يد مئات الآلاف من أعضائه، وبما يجنبه الاختراق أو زيف التعبير عن الفكرة والتاريخ.