لا أعرف مَن الذى أقنع الفريق السيسى بنشر صورته بالملابس المدنية.
ولا أبحث فى نياته الآن، ربما يكون منافقا تقليديا عابرا للعصور، أو من صناع الديكتاتور.
لكن نشر الصورة فى هذا التوقيت يأتى متزامنا مع عملية استغلال الحرب ضد الإرهاب لخطة عنوانها «العودة اللعينة» لأيتام مبارك.
خطة العودة تستغلّ شعبية الفريق السيسى وتريد مدها على استقامتها، وتحويلها إلى لحظة تمتصّ فيها «المغانم» وتتغذى فيها على الجثث كما تفعل الضباع.
ضباع النظام القديم هم قرين ضباع الإخوان ومَن تحالف معهم منذ اختيار المرسى وجماعته طبعا للتحالف مع «جناح القتلة» فى التيار الإسلامى.. هذا التحالف أسقط القشرة الرقيقة لهذا التيار وكشف عن نزوعه الفاشى، المقاتل فى سبيل دولة «الفقيه».
وكما أن تنظيمات الفاشية هُزمت، بعد ثورة تهدف إلى «الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة» فإنه ليس مقبولا قبول القوى الداعمة لعودة «دولة التسلط والقمع والفساد».. هذه القوى تنشر غازاتها المميتة واتهاماتها للجميع بأنهم «طابور خامس» حاملة تعليمات الأجهزة الأمنية وتصوراتها القديمة كأن الزمن سيعود إلى ما قبل ٢٥ يناير وتعود دولتهم القمعية المعادية للمجتمع.
هذه الكوابيس تطلّ علينا الآن من الشاشات، وتحاصرنا فى حظر التجول، وتفسد علينا حياتنا وأحلامنا بمستقبل دفعنا ثمنه شهداء، ومواجهات، وحربا ضد محاولة المرسى بناء ديكتاتورية جماعته.
هذا المجتمع دفع ثمنا كبيرا للتخلص من الطيور الجارحة للفساد وديناصورات الاستبداد، أملا وحلما فى دولة بلا تسلط ولا وصاية ولا قمع.
دولة لا يحكمها صاحب القوة المسلحة ولا سلطة الدين، دولة المواطن لا دولة المؤسسات المقدسة.
قى هذه الدولة الجيش مؤسسة أساسية مهمتها الحماية لا الحكم.. والرئيس ليس بطلا ولا استثناء بل موظف يدير مؤسسات الدولة بقوة أدواته، وشخصيته، لا بقوة استبداده وقمعه كما تروج أجهزة صناعة الديكتاتور المحترفة فى ترويج المقولات الخادعة عن «المستبد العادل» أو «مصر لا يحكمها إلا رجل قوى يشكمها» أو «المصريون لا ينفع معهم الديمقراطية».
كل هذه الخرافات تسقط تباعا، لكن هناك شبكة قوية تحاول إعادة بناء قواعدها اعتمادا على الخوف، أو استغلالا لوديعة كل مستبدّ من الجهل والتهميش.
وهنا لا يبدو نشر صورة السيسى بالملابس المدنية، تكرارا لمحاولة المشير طنطاوى تقديم نفسه حاكما محتملا (وهى محاولة متكاملة كانت موقعة محمد محمود أحد عناصرها التى تهدف إلى اصطياد قوى الثورة والتخلص منهم وإظهار الشراسة والقسوة فى مواجهة الجميع).. السيسى من جيل أحدث، ولديه إدراك أكثر باللحظة الراهنة، ورغم قدراته التى تذكّر بأصحاب الكاريزما من القيادات العسكرية فإن الذكاء الذى يتحرك به يشير إلى أنه لن يقع فى الفخ ويتقدم إلى الحكم المباشر، بينما يمكنه تحقيق مهمة أكثر تأثيرا وهى إعادة ترميم «أسطورة» الجيش ومكانته فى بناء الدولة الحديثة، ليكون مؤسسة القوة فى الحماية لا فى الحكم.. الذكاء هو إعادة بناء مؤسسة الجيش فى ظل نظام ديمقراطى بعد سنوات مبارك الذى أكل فساده كل المؤسسات وأضعفها... ولم ينقذ الدولة بكل مؤسساتها إلا الثورة.. ثورة مجتمع يريد دولة ديمقراطية لا دولة كهنة يتقاسمون المغانم ويديرون البلاد بالصفقات كما فعل مبارك وسار على دربه المجلس العسكرى أيام طنطاوى.
دولة الكهنة أوصلتنا إلى المرسى وسنته السوداء، والدرس الكبير كشف أنه ليس لدى الكهنة فى غرفهم المغلقة إلا الخراب والدمار (ولمن لم يتعلم، عليه أن يعيد قراءة ما حدث فى مسار ١٩ مارس الملعون).
أسراب أيتام مبارك تسعى للعودة على طريقة مصاصى الدماء، وقد أرسلت هذه المجموعات فرق استطلاعها، للتبشير بالعودة الملعونة التى لن تفعل سوى دفع الدولة إلى مصير الصومال وجمهوريات الموز الفاشلة.
هذه الفرق الاستطلاعية تطلق سهامها المسمومة تجاه كل من يخرح عن الصف وتصنع مناخا عدائيا للديمقراطية وحقوق الإنسان والثورة.
هؤلاء من يريدون أن يكون السيسى وشعبيته ممرا لعودتهم، ويتسللون فى ظلام الحرب على الإرهاب، كأننا نعود إلى ثنائية (مبارك أو الإخوان) أو (الجماعة أم العصابة)، وكأن قدرنا الحرب بين أيتام مبارك وأيتام المرسى.
وسأعيد هنا ما كتبته من أن العودة إلى جمهورية الأيتام المزدوجة سيمثل فشلا جديدا وسيرا فى اتجاه الكارثة، لأن الدولة لن تقوم لها قائمة دون وجود قوىّ وفعّال للقوى الديمقراطية وإعادة بناء أجهزة الأمن بعيدا عن عقل «الدولة الأمنية».
أمام قوى الثورة إذن مهمة تاريخية فى مواجهة «الفاشية الدينية» و«الدولة الأمنية» بعد حرب لم يكن من الممكن الهروب منها.