العنف نتيجة حتمية للقهر والإقصاء والعشوائية، هذا ما فطن إليه الكاتب الكبير «وحيد حامد» في فيلمه «دم الغزال».. الدم انهمر ليروي عطش العنف، والغزال هو ذلك المخلوق الضعيف الذي يتسم بالبراءة والجمال، وقد راح ضحية هذا العنف، ومن هنا يأتي اسم «دم الغزال» مجسدا للحالة التي عاشها السنياريست الكبير .. يوضح لنا الكاتب أن الدين ليس رجل الدين .. وفي بعض الاحيان يخطئ رجال الدين وهم ليسوا معصومين من الخطأ، فحتى لو تطرقت الدراما الى خطأ لرجل الدين فهذا وارد، وهذا هو النموزج الذي قدمه عن رجالٍ تتمسح في الدين لأغراض لا يعرفها سواهم.
يتناول السيناريو، قصة حقيقية حدثت في حي «إمبابة» العتيق، وهو أحد أحياء الجيزة الملاصقة للقاهرة، حيث وقع الحي تحت سطوة شاب من الجماعات الإسلامية تحوّل إلى التطرف الديني ومن ثم حمل السلاح وفي رفقته «جماعته» التي استولت على الحي في ما يشبه الدولة المستقلة، وأخذوا يطبقون حدود الشريعة الإسلامية الجنائية في الشارع، وفي وضح النهار، على سكان الحي حتى انتبهت الدولة لذلك، وحررت الحي واستعادت السيطرة عليه، وكان ذلك في ذروة صعود المد الإرهابي في مصر والذي كانت ذروته بين أواسط الثمانينات ومذبحة الأقصر ١٩٩٧.
الفيلم يتناول هذه القصة «قصة أمير إمبابة الشيخ «رضا ريشة» أو رئيس جمهوريتها كما يقول عنه أهل الحي في الفيلم»، ويتخذ من الفتاة الجميلة البريئة «حنان» رمزاً للحلم الوطني المجهض.
حنان ينتهي مصيرها بالقتل في قلب المعركة، التي خاضها الأمن ضد أمير إمبابة الذي كان اتخذ من الفتاة درعاً بشريا له واستطاع الفرار ولم يقبض عليه.
يصور الفيلم، كذلك الوجه الآخر لامبابة ـ التي هي مصر عند «وحيد حامد» ـ ذلك الوجه الذي تسكنه السلبية، والخضوع للحصانة الدينية .. فكما قال أحد الشخصيات في الفيلم «كيف نقول لا لرجل يقول في وجهنا لا إله إلا الله؟».
فما كان من الحي سوى الوقوع في رهبة الجماعة الخارجة عن القانون والمجتمع.. ورهبة الدولة الأمنية في الوقت ذاته.
إن مصر الأن هي «الغزال» التي ينزف دمها من دون رحمة ولا شفقة وليس هنا على هذه الإرض «جراحا» يريد أن يعامل ضميره ويسعى للملمة جراحها .. والجميع يراها تحتضر .. فالحرب التي تدور في بر مصر الأن الكل فيها خاسر .. ليس فقط التيار المتطرف الذي يتخذ من القتل سبيلا لينتقم ولا الدولة الأمنية التي تفرط في إستخدام القوة ضدهم.. بل ان المصريون جميعهم سيخسرون وطنهم الذي يقاتل من أجل أن يستأثر به كلا الطرفين حتى إذا إنتهت تلك الحرب القذرة، فلن يجد من يظن أنه قد فاز بتلك الحرب من الوطن شيئا.
فالغزال الأن تواجه مصير مجهول وتنتظر ولا سبيل لديها سوى الدعاء إلى الله ليخفف ألمها التي تشعر به من بسبب الجرح الكبير الذي لا يحتمل.. تكون نهايته الحتمية هي الفتنة ذاتها التي لا يراها موقظيها رغم أنهم على حافة السقوط في بئرها السحيق وهم يدفعونها بقوة إلى قاع البئر من دون أدنى شفقة ولا رحمة بها.
«دم الغزال»، هو الإجابة الواضحة عن كيفية صنع المجتمع للتطرف؟ وكيفية أن انقطاع خدمات الدولة من مياه وكهرباء ومواصلات وعلاج عن حي عشوائي ربما يفضي إلى انقطاع هيبتها وسيادتها عن هذا الحي بالكامل.. فكان هذا جرس إنذار كانت دقته السينما مئة مرة بوضوح وصوت عال.. لأن السينما لا تقدم حلا للإشكالية، بقدر ما تقدم طرحا للنقاش حولها يؤصل لها، ويعري جذورها.
ها نحن الأن في بضع أيام قليلة، ندفع ثمن إخفاقات وفشل الدولة خلال عشرات السنين الماضية.