"وصدرت 10 دراسات أمريكية عن مقدرة القوات المصرية في مناورة بدر 96 بنقل حجم كبير منها خلال 6 ساعات فقط إلى وسط سيناء، والوصول إلى حالة الاستنفار الهجومي في 11 دقيقة ".هكذا تنقل لنا صفحة الجيش المصري على "ويكيبيديا" جانبا من قدراته المدهشة.
كنت مطمئنا للغاية منذ قرأت هذه المعلومة، ففي 11 دقيقة فحسب يمكن للجيش المصري الانتشار والاستنفار بامتداد مليون كيلومتر مربع هي مساحة مصر.
عرفتها ثم نمت هادئ البال هانئه، ولسان حالي: السيسي ورجاله سيتدبرون الأمر..لا قلق على الإطلاق.
ثم وفقا لتقديرات خبراء عسكريين متقاعدين، خرجت للرأي العام تباعا على مدار الأسابيع القليلة الماضية في صورة حوارات صحفية، فإن قوات الصاعقة بمقدورها تطهير جبل الحلال في 20 دقيقة، وباستطاعتها إخلاء رابعة في 10 دقائق بمنتهى الحصافة والاحتراف، ثم بإمكانها حماية وتطويق العاصمة في أقل من نصف ساعة.. بل بإمكان الرجال في الجيش فعل الكثير جدا..وقبل أن يرتد إليك طرفك.
ربما كان في هذا جانب من الطمأنينة المرتجاة، نصدقها ونؤمن بها، أو حتى نتوهمها ونختلقها من العدم..المهم أن نطمئن ونثق..خاصة في ظل التلويح بحرق البلد منذ شهور مضت، والذي ترجمته الأيام الحالية في سيناريو الدماء والرصاص الذي يديره الإسلاميون بانحطاط بالغ الإدهاش.
لكن، فجأة، الجيش أفسح المجال للشرطة للتعامل مع المشهد الأمني وقرر أن يتوارى هو...ربما، لأسباب علاجية ترمي إلى إعادة ترميم الداخلية نفسيا وعمليا، ثم للنأي بالجيش عن لغط المسؤولية عن الدماء. خاصة في ظل التربص الإعلامي الغربي بالجيش، واستخدام أوصاف غير دقيقة في وصف تحركاته وتقديراته، ومحاولة الإخوان من جانبهم إظهاره على أنه مجموعة من الميليشات الإجرامية.
اختفى الجيش وتشكيلاته وصاعقته ودقائقه المعدودة في حسم كل شيء بصورة نظيفة مهندمة (كما في وعود الخبراء الاستراتيجيين)..وأحيلت المسألة برمتها للداخلية..إلى حيث الاختصاص الأصيل لهذه الوزارة التعيسة.
وكان من سوء الطالع أن تولى جهاز الشرطة المهتز وغير الموثوق فيه والمجهز بالأساس للاشتباك غير الاحترافي مسؤولية التعامل الأمني مع آلاف المعتصمين أو المحتلين المسلحين لميدان رابعة، فأزهقت "مئات" الأرواح!
لو كان المسمى الرئيسي للعملية هو "إبادة معتصمي رابعة والنهضة" لما اكترثنا، لكن قيل أن الشرطة ســ"تفض" الاعتصام. والفض في اللغة العربية هو "تفضض القوم وانْفَضُّوا: تَفَرَّقُوا"..أي أن الغرض هو التفرقة والإجلاء لا الاشتباك الشرس لهذا الحد.
كان الإخوان ومازالوا مسلحين، ووسط هذا ينضم إليهم مجاملون مسلحون من تيارات إسلامية أخرى، بغرض تحويل المشهد لمعركة مكتملة الأركان ضد الجيش والشرطة والشعب..وهذا يستدعي حصافة أكثر في التعامل، لا تمادي أعمى في السحق.
منذ ثورة يناير، ينادي حقوقيون بضرورة تسريح قوات الأمن المركزي والاستعانة بقوات مكافحة شغب احترافية مدربة على أعلى مستوى، لكن الداخلية تأبى وتقاوم إعادة هيكلتها وإعادة تجهيز أفرادها، خوف أبي جهل من دخول الإسلام (وبالمناسبة أهمل الإخوان أثناء حكمهم مطالب إعادة الهيكلة تماما ودفنوها!).
ثم خلال ساعات من عملية الإجلاء غير الاحترافية، اشتعلت أقسام الشرطة وأحرقت الكنائس وخرج المسلحون في عدة محافظات يعيثون فسادا، كما لو كان واضع خطة الاعتصام وما بعده "شيف حلويات شرقي" وليس رجل أمن يتعامل وفقا لتقديرات ومعلومات دقيقة في حدث جلل كهذا وفي لحظات فاصلة من عمر الدولة المصرية الحديثة.
وفي غمار هذا يسقط عشرات من ضباط الشرطة وشبابها، الذين يحسب لكثيرين منهم وثقت فيديوهات وصور ميدانية استبسالهم الحقيقي على الأرض، وقناعتهم الوطنية بما يفعلون. بعيدا عن فساد الجهاز الشرطي الأم.
وما بين الجيش الذي يدير المشهد سياسيا واستراتيجيا، وما بين الشرطة التي تحاول إعادة لملمة الأمن المبعثر..انقضى حكم مرسي ومن قبله مبارك، وهناك لغز كبير في بنية الدولة المصرية.
فهذه الدولة مهلهلة ومهترئة وضعيفة وهزيلة وصورية لأبعد مدى ممكن..لكن "النظام" فيها قوي لأبعد حد ومنيع بصورة ماحقة!
يجزم البعض أن هناك جهة ما خفية (يعتقد الكثيرون أنها ائتلاف من الجيش والمخابرات وما ينضوي تحت لوائهما من رجال أعمال) تتعامل مع المشهد الجاري ككل بصورة مثيرة للتأمل، وأنها هي هذا "النظام". ويفرقون بين إدارتها لمشهد الدم وخساراته الآنية..واعتبارات الدولة والبقاء والهوية والمصلحة..في مداها البعيد.
وعلى أثر هذا..يجري تهشيم الإخوان بهدوء، وتحطيمهم معنويا على مهل..يواجهون مصيرا مجهولا يفقدون في سبيلهم إليه مئات الأفراد..ويتورطون في هزائم كثيرة صغيرة وسط عدد من الهزائم الكبيرة الفادحة..
لايبدو لي أن الجنرال أو (الطبيب النفسي!) الذي يتولى هذا الملف سيترك الإخوان بسهلة..هو يجمع بقاياهم وأشلائهم النفسية، ويبني بها جدارية نادرة من فسيفساء الذل والهوان. هذا شخص بارد الأعصاب يدرك أن مواجهة الإخوان لن تحسم في أيام ولا أسابيع ويدرك أنه يحطم ما هو أبعد من التنظيم ويكسر ما هو أكبر من الأشخاص، ويقضى على ما هو أعقد من مجرد مشروع الإخوان في مصر.
وهذه الجهة، التي نفترض جدلا وجودها ونستدل عليه من أشباه التفاصيل وأنصاف المعلومات ومسروق التسريبات، تدير إعادة ترسيم المشهد كاملا وتعيد وضع البيادق على رقعة الشطرنج.
حين تكلم عمر سليمان، باغتتنا صدمة عميقة من الرجل الذي لم يكن نصف إله كما كنا نتخيل وكان يتكلم بصورة عادية مثيرة للرثاء كأي مسؤول في نظام مبارك، وحين ظهر مراد موافي بدا قليل الحيلة مهتزا، وحين أبعد رأفت شحاتة عن إدارة جهاز المخابرات ذهب في صمت يليق بالصمت الذي تولى في إطاره. وبدا جهاز المخابرات في الفيلم الوثائقي السخيف الذي بثه عن أمجاده، مثيرا للمرارة ومحبطا للآمال.
ورغم هذا الإحباط والإحساس بأن جهاز المخابرات المصري لا يفرق عن مجمع التحرير في "مشيانه بالبركة"..لكن هناك جهة ما(مازال معتقدا أنها المخابرات!) أسقطت مرسي بهدوء، وتتدبر المشهد إقليميا وتناور عالميا وتدير تحالفات عربية بينية، بكفاءة فوق المذهلة.
شواهد تدني الأجهزة الأمنية والمعلوماتية في مصر كثيرة..لكن الأمر الواقع يعكس قدراتها الأخطبوطية.
الآن..الجيش يترك الإخوان لمصيرهم المحتوم مع الشرطة الغشيمة الغاشمة ومع جموع الشعب الغاضبة ومع فلول بلطجية الحزب الوطني..يتركهم للجميع ينهش فيهم كما يشاء (وهم بالمناسبة لا يستحقون مصيرا أفضل!).
لكننا من ناحية أخرى كمواطنين مصريين، نواجه المجهول الذي يقرر بالنيابة عنا ويخطط دون معرفتنا، ويجري حساباته القاسية وفقا لتصوره عن مصلحتنا ومصلحته.. ولسان حالهم "الدول لا تدار بالعواطف الأمومية".. هكذا يعتقد رجال الدولة المتخثرون.
هو مرعب هذا الكيان، إن كان موجودا، وإن لم يكن، فهذا مرعب أكثر!
الجميع يتابع سقوط الإخوان السيزيفي، لكن الكل يحمل مخاوف عميقة تجاه المستقبل..ربما في وقت ما لن يكون الاستماع لأوبريت "تسلم الأيادي" هو المخدر الذي يسكت صداع هذه الأسئلة.