جواز سفره يشير إلى أنه سوري الهوية ولكن عشقه وهوائه وأرضه وسمائه تؤكد مصريته فهو مصري الهوى، إنه د. رفيق الصبان عميد النقاد العرب وعامود خيمتهم فقدناه مساء أول من أمس وهو يعيش مأساة بلديه وطنه سوريا الذي لم يستطع قبل أكثر من عامين أن يعود إليه كما تعود في مهرجان أو أسبوع أفلام، بعد أن تفككت أواصل الدولة، ومصر يراها وهي تتمزق أمامه وتعيش تحت ظل قانون الطوارئ بعد أن أصبحنا فريقين مصريون أو إرهابيون.
د. رفيق جاء للقاهرة بالصدفة قبل نحو 40 عاماً كان في طريقه مجدداً إلى مدينة النور باريس ليستكمل حياته هناك بعد أن غادر دمشق متجهاً إليها ولكن ارتباطه بكتابة سيناريو فيلم "زائر الفجر" للمخرج الراحل ممدوح شكري حال دون ذلك، وهو أول فيلم مصري في مطلع السبعينيات يفضح مراكز القوى ويكشف ما كان يجري في المعتقلات، "الكرنك" بالطبع هو الأشهر إلا أن تاريخياً " زائر الفجر" سبقه بثلاث سنوات.. قال لى د. رفيق إنه لم يكن يفكر في مواصلة العمل بمصر، كان يستعد للعودة مجدداً بعد أسبوع إلى باريس حيث كان قد أنهى دراسته هناك ويريد أن يكمل بها مشواره، لم يستطع أن يفلت من جاذبية المناخ المصري الذي يحمل جينات الإبداع ويمنحها لمن يعيش على أرضه على شرط أن يكون موهوباً، ووجد د. رفيق نفسه ينتقل من عمل فني إلى آخر والأسبوع يمتد إلى إقامة دائمة.. يسعى إليه معهدي السينما والمسرح للتدريس فهو في الأساس دارس للمسرح وأستاذاً له، كان قد أخرج عدة مسرحيات في دمشق قبل سفره للخارج، ويتحول مع الأيام ليس فقط إلى ناقد وكاتب سينمائي كبير ولكن يصبح علامة فارقة في النقد وكاتب سيناريو أسمه على الفيلم يعني علامة للجودة.. في مهرجان "كان" كنا نلتقي على مدي أكثر من 15 عاماً، في السنوات الخمس الأخيرة لم تكن لياقته الصحية تسمح له بالذهاب حيث إن المهرجان يتطلب سرعة الحركة من دار عرض إلى أخرى وكان الإنهاك الجسدي قد بلغ مداه ولكنه لم يتوقف لحظة عن تعاطي السينما.. وما يفوته في "كان" يعوضه في القاهرة ولا يسمح لنفسه بأن تُعرض مسرحية قبل أن يشاهدها، في كل مرة أذهب لدار الأوبرا أجده على نفس كرسيه الصف الثاني شمال تصحبه السيدة الفاضلة رفيقة الرحلة زوجته الحنونة ليلي، يقدم لنا دائماً معلومات عن هذا العرض الأوبرالي أو تلك السيمفونية العالمية وتعتقد بعد كل هذه المعلومات التي تتدفق أنك أمام مؤرخ للموسيقى والأوبرا والبالية، ولو كنا بصدد الحديث عن الموسيقي الشرقية الكلاسيكية تفاجئنا معلوماته الغزيرة عن أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد وفيروز شلال من المعرفة.
كنا دائماً في رمضان نلتقي على قناة الأوربت هو والناقدة الشابة علا الشافعي وأنا على اعتبار أننا ننتمي لثلاثة أجيال نقدية لنحلل المسلسلات المعروضة، في هذا العام كان من الصعب أن يشاركنا د. رفيق لظروفه الصحية افتقدناه وأفتقد المشاهد حضوره الممتع، أتذكر قبل عامين ونحن في طريقنا لمدينة الإنتاج للتسجيل ألمت به أزمة قلبية وكان ينبغي أن أعيده مرة أخرى للمنزل لكي يذهب مجدداً للمستشفى كنا في بدايات رمضان والقلب منهك القوى ورغم ذلك كان حريصاً على المتابعة، وقبل يومين فقط قرأت له تحليلاً مكثفاً لأفلام العيد على صفحات "أخبار النجوم".
لا أتصور أن في عالمنا العربي أحد لديه هذا الأرشيف الضخم من الأشرطة و"الدي في دي" لكل الأفلام العالمية والعربية والمصرية مكتبته السينمائية والأدبية بها عيون كل الكتب والمراجع.
أفلامه تقترب من الثلاثين لعل أحبها وأقربها إليه هو "ليلة ساخنة" للمخرج عاطف الطيب، الفيلم كان بداخله حكاية طفل معاق ذهنياً مستلهماً حياة ابنه الثاني الذي ولد بإعاقة ذهنية ويعيش معه في المنزل ورفض أن يرسله إلى معهد أو مستشفي.
لم يحمل الجنسية المصرية ولكنه الوحيد في مصر الذي يشارك في عضوية نقابة السينمائيين وجمعية كتاب ونقاد السينما، ولم يسأله أحد أبداً عن الجنسية اعتبرناه مصرياً وحضوره في أي لجنة تحكيم خارج الحدود كان يعني حضور لمصر.. رحل من كان يعيش الحياة حتى آخر نفس، وأنا أنهي المقال جاءني خبر رحيل المخرج الكبير توفيق صالح وتكاثرت عواصف الأحزان.