عبّرت السينما منذ وجودها وإلى اليوم عن التفاصيل والأحلام الإنسانية، فعالجت قضايا وطرحت أخرى ضمن قوالبها الدرامية .. وكم في السينما من أفلامٍ لامست الجراح لدرجة أنها أبكت مشاهديها، وكم من أفلامٍ خالدة لا تموت بمعنى أنها صالحة لأكثر من زمان وأكثر من مكان.
فيلم «البريء» لمؤلفه وحيد حامد ومخرجه عاطف الطيب ينهض أمامنا وكأن أحداثه تجري اليوم في زمن ما بعد ثورة ٢٥ يناير وإنتفاضة ٣٠ يونيو في زمن تكسير المفاهيم الجامدة التي حفظناها عن الوطن وأعدائه، لنكتشف وطنا جديدا بأعداءٍ جدد يتطلبون منا وسائل دفاع مختلفة تماماً عن تلك التي عرفناها في السنين الماضية فالفيلم «البريء» يتناول قصة حقيقية حدثت مع مؤلفه وحيد حامد شخصياً خلال انتفاضة ١٧ و ١٨ يناير عام ١٩٧٧ التي قامت لرفض الفساد السلطوي آنذاك .. وتحكي عن إنسان بسيط اسمه «أحمد سبع الليل» قام بدوره الفنان العظيم الراحل «أحمد زكي» وهو يعيش في الريف المصري الفقير مع أمه وأخيه المريض نفسياً وكل ما لديه عن مفهوم الوطن والمواطنة هو قطعة الأرض التي يزرعها ويرويها كل يوم، والناس في تحليلاته الساذجة ينقسمون إلى أشرار أو أخيار ولا مجال لأي لون وسطي بينهما .. وأما أعداء الوطن فهم أولئك المستعمرين الذين يريدون أن ينهشوا الأرض والعرض، وغيرها من هذه المفاهيم البسيطة جداً جداً لا يمكن أن يستوعب شيئا .. فهو بسيط لدرجة أنه ذهب إلى صديقه الشاب الطيب «حسين وهدان» عند استدعائه إلى الخدمة الإجبارية، ليشرح له مفهوم التجنيد والجندية كونه المثقف الوحيد في القرية، ولما شرح له حسين بأن التجنيد هو وسيلة للدفاع عن أرض الوطن، ردّ ببراءة مستفزة للمشاعر «بس بلدنا ما لهاش أعداء» وعلى هذه الجملة بالتحديد يقوم الفيلم درامياً وفكريا.. فهل فكرة العدو موجودة حقا، أم أنهم اخترعوها لإبقائنا تحت السيطرة؟ وإن وجدت فمن هو العدو الحقيقي ؟
ما حدث أمس الأحد ١٨ أغسطس ٢٠١٣ أمام سجن «أبو زعبل» من إلقاء قنابل الغاز التي أسفرت عن قتل ٣٧ مصرياً من المقبوض عليهم في تظاهرات مؤيدي الرئيس المعزول إلى دون رجعة «محمد مرسي» وقالت وزارة الداخلية في بيانٍ لها إن كانت صادقة فيه وهذا أمر لا يصدق بالمرة، أنهم إحتجزوا الضابط المكلف بتسليمهم إلى السجن في العربة وحاولوا الهرب فما كان من قوات الأمن عند السجن سوى إطلاق قنابل الغاز عليهم فاختنقوا، هذا لا يعني سوى أمرين، أن قنابل الغاز التي ألقيت عليهم هي قنابل سامة ومحرمة دولياً، أو أنها قنابل غاز مسيل للدموع لكن ألقيت عليهم جميعاً في مكانٍ مغلق وحتماً سيموتون في غضون دقائق معدودات، وإذا كان قد حدث أياً من الأمرين فهذه جريمة كبرى يجب أن يُحاسب عليها كل من شارك بالسلب أو الإيجاب في تلك الجريمة ... ذكرني بفيلم البريء عندما كانت تأتي عربة الترحيلات بالمعتقلين السياسيين عند بوابة المعتقل فيفتح باب العربة لتدخل الكلاب البوليسية الشرسة لتنهشهم جميعاً داخل العربة ومن ينجو ويستطيع الفرار منها فيكون مصيره الحتمي هو مواجهة عصي الأمن المركزي الذي ينهال على رأسه من دون شفقة ولا رحمة.
لا أعلم هل أقول من سوء الحظ أم من حسن الحظ، انتهاء المطاف بأحمد للخدمة كحارس في أحد المعتقلات. وهذا طبعاً بعد خضوعه للفحص الطبي والثقافي وبعد اتضاح أنه أمّي وجاهل حيث هو المطلوب، وهناك في المعتقل يتعلم أسلوب «نفّذ ثم اعترض» وحتى هذه الثانية لا مجال لوجودها، فالاعتراض في المعتقل مساو للانتحار، مما يكرس أفكاره البسيطة والجامدة أكثر. ويظل على هذه الحال إلى أن تأتي إحدى سيارات المعتقل القميئة بعدد جديد من المعتقلين، المتعود على ضربهم وإهانتهم والجديد هو قتلهم بالغاز هو وبقية رفاقه كوسيلة ترحيب أولية لمن نجا منهم. ليتفاجأ بأن حسين وهدان الصديق الطيب والوفي من بينهم. وهنا تبدأ مرحلة جديدة من الصراع العاطفي والعقلي عند بطل الفيلم أحمد سبع الليل. فكيف يمكن لحسين وهدان أن يكون من أعداء الوطن؟ وهل خدمة الوطن أو «الجندية» تعني أن نقتل أبناءه حتى وإن كانوا مثيري الشغب ؟.
أما نهاية الفيلم فصوّرت الحالة التكرارية الطبيعية للمعتقلات، فالسيارة المخصصة لجلب المعتقلين تمارس عملها دورياً دون كلل أو ملل .. لكن المختلف هنا الصرخة الرائعة لـ «أحمد سبع الليل» من موقعه في برج الحراسة، حاملاً الناي بيده.
فالإنسانية في النهاية ستنتصر على الجلاد وستقضي عليه.