على مدى أربع ساعات كنت أحاول الخروج من شارع قصر العينى فمررت بالصدفة بكل تجليات الشعب المصرى متفرقة فى هذا المربع، تقف كل واحدة على بعد أمتار من الأخرى، ولا شىء يجمع بين كل هذه التجليات إلا الفزع.
عند منفذ الخروج من ناحية كورنيش النيل كان يقف رجل مسن أغلب الظن أنه سايس أحد الجراجات يحاول قدر استطاعته أن يمنع الناس من الوصول للكورنيش، كانت يداه ترتعشان عندما استند إلى شباك السيارة قائلا «فيه ضرب»،لكننى أصررت على المرور وعند مدخل الفور سيزونز كانت الطلقات عاصفة بشكل يجبر كل من يظن فى نفسه الجرأة على الانحناء داخل سيارته والارتداد للخلف، كان صوت اختراق الطلقات للهواء بالقرب من قوقعة الأذن مربك أكثر من صوت الطلقات نفسها (ارجع.. ارجع) قالها المجند بلكنة صعيدية، فى محاولة للعودة إلى المنزل وجدت نفسى أمام قسم قصر النيل.
أمام القسم كان الضباط والجنود قد وضعوا حواجز ضعيفة هى فى الأصل حواجز باركنج السفارة الملاصقة، وخلف إحداها تراصوا ممسكين بالأسلحة الآلية وفى وضع الاستعداد، توقعت طلقة وأنا أقترب منهم بعد أن تورطت فى مسار الشارع الإجبارى، لكنهم من هول الموقف لم يرونى، كان باديا على وجوههم أنهم فى انتظار مشهد محدد، ينتظرون مشهد مئات اللحى تحمل الرشاشات وتدخل باتجاههم مهرولة، كانوا فى انتظار الموت لدرجة أنهم لم يهتموا بشخص من نوعيتى دخل الشارع بطريق الخطأ، رأيت فى عيونهم نظرات مغادر يسترجع أمورا ما من حياته الشخصية فى لحظة وداع لها.
بعد أن أسقطتُّ معظم هذه الحواجز وأنا أعود بسيارتى إلى الخلف توقعت أن أرى أحدهم يعيدها إلى مكانها، لكن أحدا لم يتحرك.
مررت من شارع آخر فوجدت نفسى عند مستشفى قصر العينى، زحام شديد من الأهالى والممرضات والأطباء يهرعون فى الشارع حاملين الأدوية أو المصابين، سألت شبابا يقفون هناك عن الوضع فقالوا «الجيش بيفرمنا»، دققت فى المشهد من حولى فوجدت المنطقة كلها شباب ورجال ونساء الإخوان بعضهم يقف منتحبا والبعض يجلس على الرصيف مهزوما، أنا الآن فى قلب المسيرة التى انفضّت، تعرفت على أحدهم فسألنى «ينفع اللى بيحصل ده؟»، سألته «اللى بيحصل من مين فينا؟» فأشاح بوجهه بعيدا، طلبت منه أن يأخذ من معه وينصرف حفاظا على أرواحهم، فقال لى إنه إذا لم يمت هنا بالرصاص الميرى فسيموت على بعد خطوات بسلاح الأهالى.
هو أيضا كان ينتظر الموت.
وقد كان محقا، أسفل منزلى عندما قررت العودة لاستحالة المرور كان أهل الشارع يلملمون كل شىء، كراسى المقهى وثلاجات الأكشاك ويقفون بعرض الشارع مترقبين قدوم الإخوان المتمركزين عند المستشفى، هم أيضا كانوا فى رعب أعادوا علىَّ بعضهم مشاهد الملثمين الذين يطلقون النار على الأهالى فوق كوبرى مايو وفى أماكن أخرى، كانوا فى حيرة، البعض قال نتركهم يمرون ما لم يتعرضوا لنا بأذى، بينما أقسم الآخرون أنهم غدارون وسيفرغون رصاصاتهم فينا، قالها ثم أخرج المقروطة فخرجت بقية قطع الأسلحة، كان الانتظار يطول فيزيد القلق وترتفع الحواجز، تكونت لجنة شعبية بعضها يقترح حلولا سلمية من باب التفتيش والسماح لهم بالعودة إلى بيوتهم وبعضهم يقترح أن يكون ضرب النار فى الساقين، وكان من يقترح ضرب النار أكثر الموجودين ذعرا.
كان تجمع مستشفى قصر العينى ينفرط، لمحت أشخاصا منهم يقتربون من اللجنة بشكل فردى فى طريق البحث عن محطة المترو أو تاكسى، لم يتعرض لهم أحد، كان معظمهم رجالا كبار السن، كان شباب اللجنة يراقبونهم حتى يبتعدوا تماما.
مرت ساعات الترقب بصعوبة إلى أن خفت الذعر فى المنطقة قليلا، فى النهاية خرجت من هناك باتجاه الشيخ زايد، أرغمتنى الطرق المقطوعة من قبل الجيش أو الإخوان أو اللجان الشعبية على الدخول فى شوارع لم أمر بها من قبل، ولم تكن هذه الشوارع تفضى إلى شىء