هل يمكن التفكير وسط زمجرات آلات الحرب؟
سنحاول.
زمجرة الآلات القديمة تصحبها أناشيد العبيد على غياب أسيادهم، سر حياتهم، وليس أسوأ من سماع جوقة الببغاوات التى كانت تعمل فى حراسة مبارك وعصابته، إلا سماع الجوقة المنافسة التى تبكى على ضياع فرصة جماعة الإخوان فى احتلال مصر.
ببغاوات مبارك أيتام دون عصابته، يتصورون الآن أنهم يمكنهم العودة للانتقام ليس من أيتام المرسى وعصابته فقط، ولكن من الجميع، مجتمعا وثورة.
يتصور أيتام مبارك أن هذه حفلتهم، سيدخلون تحت ستار الفرح بالتخلص من المرسى أو الخوف من انتقام جماعته وإرهابها، هكذا عادت الوجوه القبيحة للظهور على الشاشات وخرجت من كهوفها، كما عادت الواجهات المدنية لتحمل توجيهات الأجهزة الأمنية فى صياغات منمقة كأنها حقائق ووعى شخصى. وتنطلى الخدعة الجديدة وقت الخوف/ الحرب، لكنه سريعا ما ينكشف خصوصا أن عودة الوجوه القبيحة وخروج الببغاوات الشرسة من كهوف الاختباء، يمثل إدانة جاهزة لتركيبة ٣٠ يونيو.
فالتركيبة الحاكمة التى جاءت بعد الخروج الكبير فى ٣٠ يونيو مثلت تحالفا سياسيا بين قوى الثورة وأجهزة الدولة، بهدف ضرب وإزاحة تيار الفاشية الدينية.
الفاشية الدينية عطلت الثورة، ووقفت حاجزا فى إطار تأسيس مجتمع جديد ونظام ديمقراطى، ولم يكن أمامها لتحقيق ذلك إلا تدمير الدولة وأجهزتها.
وهذا ما دفع إلى تحالف لإنقاذ الدولة واستكمال الثورة، على ما فى التحالف من خطورة لم تتوفر إمكانية لتجاوزها من أجل هزيمة الفاشية. وهذا يعنى ببساطة أن جنوح التركيبة إلى أيتام مبارك، أو تصورها أن الموضوع سينتهى عند الانتصار الأمنى على أيتام المرسى، سيمثل فشلا جديدا وسيرا فى اتجاه الكارثة، لأن الدولة لن تقوم لها قائمة دون وجود قوى وفعال للقوى الديمقراطية وإعادة بناء أجهزة الأمن بعيدا عن تركيبة «الدولة الأمنية».
وهذا ما يجعل استقالة، أو انسحاب البرادعى مؤثرا على تركيبة ٣٠ يونيو. وكما كتبت قبل أيام فى صفحتى الأسبوعية بـ«السفير» :البرادعى خرج من الدائرة.
لكنه ليس كما دخلها بالتأكيد. انسحب الدكتور محمد البرادعى فجأة من تركيبة الحكم بعد 30 يونيو. فعلها فى قلب «المعركة» كما رأتها الدولة الأمنية وجوقتها وجمهورها. انسحاب فى غير وقته، وإن كان متوقعا، فهو غاندى الذى أرادته الظروف أن يلعب دور نهرو، أو الداعية الذى دفعه الفراغ السياسى إلى لعب دور السياسى، وهو ترنح على الجسر بينهما. جاء البرداعى من خارج دائرة النخبة المعارضة بعد عودته فى شباط عام 2010، يصاحبه سحر الإنجاز فى الخارج، جائزة نوبل وإدارة هيئة الطاقة الذرية. هابط من سماء أخرى وهذا ما جعله مربكا للجميع: من يبحث عن بديل ومن يرفض البديل.
إنه بمعنى ما لم يكن البديل للجنرال ولا يمكنه الدخول فى حرب الآلهة على المقعد الفخم فى مصر. إنه سهم قادم لكسر الدائرة المغلقة على نفسها. سهم حكيم هادئ لا يدّعى امتلاك الحل السحرى أو مفاتيح الجنات المغلقة. البرادعى، كانت طبخته جديدة. وتلعثمه الذى انتقده مدمنو الحلول الجاهزة، إشارة إلى حيوية القوى الجديدة فى المجتمع... قوى هاربة من الاستقطاب بين النظام والإخوان المسلمين، وتفك عزلة مصر عن تيارات التغيير فى الألم وتجعلها أعجوبة أو قائدة فى دول الأعاجيب العربية. الفاشية كما عرفتها مصر دائما كانت بليغة وتصنع نماذجها المخدرة ببراعة فى العصر الفضائى، وتنتقل من شرفات الحكم إلى الشوارع مثل المخدرات السهلة.
وفى المقابل كانت ثقافة التغيير ترتبط بتلعثم ما للخروج عن النص السائد... وهذا ما وضع البرادعى فى موقع مميز، أيقونة من الثورة المصرية رغم أنه إصلاحى، ولا يحب السياسة، ونضاله أوروبى الملامح.
ظل البرادعى خارج الدائرة، بالاستغناء عن المناصب، والمسافات بينه وبين الشعبوية بأشكالها، والدائرة القديمة للنخبة ليكون «حكيما» و«دليل طريق» كلما تحققت نبوءاته التى بدا أنه يقرؤها من «كتالوج» الدولة الحديثة فى أوروبا. لم يقطع البرداعى المسافات، لكن القوى السياسية كلها قطعت المسافات إليه واختارته مفوّضا وممثلا فى تركيبة الحكم بعد 30 يونيو. ولأنه من الذكاء ليعرف أن وجوده يحمى ما حدث من وصف «الانقلاب العسكرى»، فإنه تعامل كما لو كان هذا «الوجود المميز» ورقته الوحيدة.
لم يسع للبناء على هذه الميزة لتقوية «المكوّن السياسى» فى تركيبة الحكم، كما غابت عنه إرادة بناء موقف سياسى بدلا من الاكتفاء بالتهديد بالانسحاب. البرادعى كان هدفا، قبل إعلان تركيبة الحكم، لجوقة الجناح العسكرى، وبدا أن هناك «عشاءً أخيرا» سيُعدّ له عاجلا أو آجلا... قبل «الفض» أو بعده. لم يحاول البرادعى استكشاف البيئة التى وصل فيها إلى السلطة.. تصور أنه سيُسمح له بصنع معجزة من دون أن تظهر بوادر سحره لم يرَ شبكة بروباجندا تلتفّ لتصنع جمهورا من المنتظرين للمنقذ العسكرى من الوحش المقيم فى «رابعة العدوية». جمهور لم يفكر البرادعى فى تقديم «حل آخر» يقوّم به السحر القديم للدولة الأمنية.