في أحد شوارع الإسكندرية الرئيسية، وفي مكان لا يلفت كثيرًا أنظارالمارة، تقع لافتة تحمل اسم الشارع، اعتدت أن أتأملها كلما مررت بجوارها، واعتدت أن أتذكرها كلما مر أمامي اسم جمال عبد الناصر.
هذه اللافتة مكتوب عليها اسم الشارع كالتالي: «طريق الزعيم جمال عبد الناصر، طريق الحرية سابقاً».
اللافتة التي اعتدت أن أراها شديدة الاتساخ كانت دائماً ما تختصر في عقلي دولة يوليو التي أسسها عبد الناصر، فهي دولة تديرها عقليات تمتلك من الغرور الممتزج بالغباء ما يمكنها بكل بساطة أن تغير اسم طريق من «الحرية» ليحمل بدلا من ذلك اسم الزعيم، ولا تلتفت إلى المفارقة الساخرة، فتضع لافتة كتلك ثم تترك الدهر ليأكل عليها ويشرب لتبدو في تلك الصورة البائسة تماماً كصورة ومصير الدولة نفسها.
حرصت منذ أيام على أن أمُر هناك، فقط لأتأكد أن اللافتة لا تزال في مكانها، ربما لتزايد موجة الحنين لعهد عبد الناصر، ومحاولة استنساخ عصره من جديد لمواجهة التيارات الإسلامية والإخوان.
هذا الاستدعاء الذي يتمثل في خطاب قومي مصري عالي النبرة في وسائل الإعلام الحكومية والخاصة، وتعلق في ذيل السلطة لحمايتهم من الإخوان، ثم استدعاء صورة الزعيم في هيئة عبد الفتاح السيسي، الجنرال الجديد، في صورة قاهر الإخوان والأمريكان على حد سواء، والتهليل لمذبحة حقيقية في رابعة، بحجة حماية الوطن، وأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وكل مفردات الخطاب القومي، وأغانيه التي ازدهرت في عهد عبد الناصر.
أتذكر الآن، أننا منذ عدة شهور، كنا قد اكتشفنا أن نشيد «لبيك إسلام البطولة» (وهو أحد أهم أناشيد الإخوان، وتيار الإسلام السياسي عموماً) منقول بالكلمة واللحن من أغنية قديمة منذ عهد عبد الناصر، اسمها «لبيك يا علم العروبة»، وقتها كانت كل التعليقات تجد في هذا إشارة على فقر مواهب الإخوان، الذي يجعلهم غير قادرين على إبداع فنون خاصة بهم، وهي إشارة صحيحة لحد كبير في نظري، إلا أن الإشارة الأهم في تلك الحكاية هي في النظر إلى الجذور المتطابقة بين الخطاب الإسلامي والخطاب القومي بكل مفرداتها، من تصور وجود مؤامرة كونية ضدهم، والتهديد بالمعارك التي سينتصر فيها «الإسلام أو الوطن» والتي لا توجد سوى في الأغاني فقط، ورخص حياة البشر التي يمكن أن تتخذ من جماجمها سلماً للمجد. كل هذا التطابق في التفاصيل بين جذور الخطابين جعل من السهل استبدال يافطة «الإسلام» مكان «العروبة»، وهو إن دل فإنما يدل على أن هذا وذاك ليخرجان من مشكاة واحدة.
سيقول السفهاء من الناس عن خصوم الإخوان الذين سيدينون مجزرة فض اعتصام رابعة، ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وسيصفونهم بخلايا الإخوان النائمة، وسيصفونهم بانعدام الوطنية والخيانة «تماماً كما كان الإخوان يصفون خصومهم بأعداء الإسلام».
وسيزداد هتافهم للأجهزة الأمنية، وتعلقهم بالزعيم الجديد الذي سيخلصهم من الإخوان.
لكنهم للأسف سيتناسون أنه لولا نزول الملايين ضد حكم الإخوان في ٣٠ يونيو لظل الجنرال يؤدي التحية العسكرية لمحمد مرسي كقائد أعلى، ولظل يؤكد على عدم تدخل الجيش، كما فعل مرات من قبل، ولظلوا هم يعتقدون أنه من الخلايا النائمة.
لكن من لا يؤمنون بحركة الجماهير هم فقط من يتصورون أن الجنرال هو البطل الذي أنقذهم من حكم الإخوان، تماماً كما يتصور الإخوان أن من ثاروا ضدهم كانوا مدفوعين من الأجهزة الأمنية.
لا شك عندي أن إنشاء دولة أمنية لها «زعيم» على طراز دولة عبد الناصر لم يعد ممكناً، لكني فقط أتعجب ممن يسعون بشدة نحوها، فعلى مدار عقود، كان التيار القومي والناصري في مصر يجدون في عبد الناصر زعيماً، رغم اعتراف معظمهم بمثالب عهده، من انعدام الديمقراطية، والحريات وحقوق الإنسان، وعسكرة الدولة. لكنهم كانوا يرون في انحيازاته الاجتماعية وما يصفونه باستقلال القرار الوطني شفيعاً له يجعل من تجربته نموذجاً يمكن إعادة تطبيقه إذا ما تخلصنا من مساؤها. لكنهم اليوم الأعلى صوتاً في دعم الجنرال الجديد، رغم أنهم لا يعرفون شيئاً عن انحيازاته، سوى أنه جنرال عسكري، يمكن أن يقهر الإخوان أمنياً فيعيد لهم نفحة من زمن الزعيم القديم. لذلك فهم على أتم استعداد لدعمه والهتاف باسمه، وربما مطالبته بالترشح لرئاسة الجمهورية (كما فعلت ابنة جمال عبد الناصر بنفسها بالفعل)، دونما خجل أو حرج، وأن يسلكوا طريق الزعيم للنهاية، بدلاً من طريق الحرية سابقاً.