اتفقت تقريبًا كل القنوات المصرية الخاصة على خطة واحدة، وهى مقاطعة المسلسل التركى، أعتقد أصحاب هذه القنوات أنهم «جابوا الديب من ديله»، ووجهوا صفعة مدوية على وجه رجب طيب أردوغان بسبب موقفه السياسى المؤيد للإخوان والمعادى للسلطة المصرية.
هذا القرار أراه نوعًا من النفاق السياسى الفج، فما علاقة أردوغان بمهند وفاطمة وكنزى والسلطان سليمان وحريمه، بل إن أردوغان سبق وأن أعلن أن حريم السلطان إهانة للتاريخ التركى، وتمنى لو كان يستطيع مصادرته.
لست من المغرمين بالدراما التركية، وأرى أن بها من الرغى والتطويل ما تفوقت به على نظيرتها المصرية، لكن لا شك أن لهذه المسلسلات قطاعًا وافرًا من الجمهور المصرى والعربى يتابعها أينما ولت وجهها، هل يعتقد أحد أن أردوغان سوف يستشعر الخطر المحدق بتركيا ويتراجع عن مواقفه السياسية حماية لانتشار المسلسل التركى خارج حدود بلاده.
من هو المستهدف بمنع المسلسل؟ إنه الجمهور والحقيقة أن المشاهد لن يغلب سيذهب إلى أى قناة تعرض المسلسل مدبلجًا بالسورية، لدينا ما يقرب من ألف قناة ناطقة بالعربية، وعدد وافر منها تقتات فى جذب مشاهديها على المسلسل التركى، ما رأيكم أننا غدا نصدر قرارًا بتحريم استخدام كلمات مثل أبلة وأفندم وأونطة وبابا غنوج وبقشيش وجميعها تركية تسللت إلى لغة الخطاب اليومى المصرى، كل هذا سيطير النوم من عين أردوغان، خصوصًا لو زدنا عليها وأوقفنا صناعة «كفتة داود» و«لقمة القاضى» التركية الأصل، ومنعنا المقاهى من صنع القهوة التركى، واكتفينا بالعناب فهو مشروب مصرى صرف.
ما كل هذا العبث الذى نندفع إليه ونحن معصوبى الأعين، مع الأسف لنا تاريخ حافل فى ممارسة هذا النوع من عشوائية ورعونة القرارات، أتذكر بعد مباراة مصر والجزائر فى أم درمان قررت كل النقابات والهيئات الثقافية المصرية مقاطعة كل ما هو جزائرى، حتى الفنانة وردة دفعت الثمن بسبب جذورها الجزائرية وصدر وقتها قرار شفهيًّا بمنع أغانيها من التداول وكتبت معقبًا على صفحات «الدستور الأصلى» أننا نعاقب فى الحقيقة أنفسنا، وليس وردة، لأنها من أحب الأصوات للمستمع المصرى وأغانيها -على الأقل 95% من رصيدها باستثناءات قليلة- هى أغنيات مصرية، مثل هذه القرارات بقدر ما أرى فيها من اندفاع، أراها أيضا تحمل قدرًا من النفاق للسلطة السياسية، وفى العادة تسقط سريعًا، ثم إذا كنا نعاقب الثقافة والفن والمسلسلات التركية لمواقف أردوغان فلماذا نستثنى أمريكا، أليس أوباما مثل أردوغان يقف أيضا ضد السلطة المصرية، فهل تجرؤ قناة فضائية سينمائية أو مهرجان سينمائى على مقاطعة الفيلم الأمريكى، أم أنهم يتعاملون تبعا لنظرية «مش قادر على الحمار يتشطر ع البردعة».
دعونا نقلب الصفحات، هل نجحت يومًا المقاطعة الفنية؟ الحقيقة هى أبدًا، حتى الأغنيات الرديئة التى كانت الرقابة تمنع تداولها كنا نجدها فى الشارع وعلى الكاسيت يتخاطفها الناس، أتذكر أغنية «الأساتوك» قبل نحو 25 عامًا لحمدى باتشان، بمجرد أن منعتها الرقابة صارت هى الأغنية الأكثر مبيعًا فى الأسواق، بلاش دى فاكرين مسلسل سيدنا «عمر» الذى اعتبره الأزهر الشريف مخالفًا للدين الإسلامى، وناشد كل المسلمين أن لا يشاهدوه، لأنه يجسد سيدنا أبو بكر وعمر وعلى بن أبى طالب وعثمان بن عفان وغيرهم، وهو ما يعتبره أزهرنا الشريف مخالفًا للشريعة، الذى حدث فى رمضان 2012 أن المسلسل عرض حصريًّا على قناة «إم بى سى» وحقق أعلى رقم مشاهدة بين المصريين.
حتى مقاطعة الفيلم الأمريكى التى صدرت بعد هزيمة 67 بسبب موقف أمريكا المؤيد لإسرائيل والداعم لها عسكريًّا وسياسيًّا لم يستمر أكثر من بضعة أسابيع رغم أن الدولة كانت تملك كل منافذ العرض، كنا وقتها نعيش فى زمن ما قبل عصر الفيديو والفضائيات، وكان من الممكن بالفعل تطبيق مثل هذه القرارات، بينما الأمر حاليًّا من المستحيل التحكم فيه، ينبغى أن نقف ضد خلط الثقافة بالسياسة خصوصًا أنه لا ثبات للمواقف التى تتغير فى لحظات للنقيض، ماذا لو غير مثلا أردوغان موقفه بحكم أن فى شريعة السياسة المصالح تتصالح، فهل نعرض بعدها بكثافة أكثر المسلسلات التركية كنوع من التكفير عن الذنب، لماذا كل هذه الطلقات «الفشنك» ألا يكفينا صوت الرصاص الحى فى الشارع؟!