قلت من قبل إن «الجزيرة» كانت أكبر عدو للإخوان، ولا أزال عند رأيى. لقد وفرت بالهواء المفتوح مادة إعلامية انفرادية، أسهمت بشكل أساسى فى تحول شعور المصريين ضد هذه الطائفة التى تهددهم، التى تحتفظ لهم بالوجوه العابسة وشعارات الحرب، وتحتفظ للأجانب بالوجوه المبتسمة والشعارات السمحة. لقد أسمعت المصريين التهديدات بتخريب بلدهم وتقسيمها بآذانهم، وأرتهم بأعينهم، بحيث أوصلت القطاع الأكبر من الشعب إلى الاعتقاد بأن هذه الطائفة لا يمكن التعايش معها سياسيا على هذا الحال. ولا سيما أن المروجين للتعايش السياسى معها لم يقدموا طرحا واضحا، ولا مدى زمنيا، بل اكتفوا بجمل عائمة، تكذبها -مرة أخرى- التصريحات التى يراها الشعب على «الجزيرة».
لقد كانت «الجزيرة» الدب الذى قتل صاحبه من حيث أراد أن يحميه. وهذا درس للإعلام المحلى الموالى للسلطة الحالية.. كيف؟
الطبيعة اللا سياسية للخصم كفيلة وحدها بإظهار جرائمه، لا حاجة إلى الشحن، لا حاجة إلى تقديم صورة أحادية متحيزة، لا حاجة إلى الاقتداء بـ«الجزيرة»، لأن هذا يقدم صورة معاكسة عما يريد الإعلام تبليغه، يقدم صورة شبيهة بصور المجتمعات الاستبدادية أو تلك التى تستعد لحقبة استبدادية، يقدم صورة لمجتمع لم يسقط فقط سلطة الإخوان، إنما أسقط ما اكتسبه المجتمع من حرية تعبير عن الرأى، يقدم صورة لمجتمع يجلس فيه رقيب فى غرفة التحكم لكى يقرر ما يراه الناس ويسمعوه وما لا يرونه ولا يسمعونه. وهذا مجتمع لا يشجع أحدا على التعاطف معه أو فهم قضيته. الحجة الجاهزة هنا أن ترك الباب مفتوحا يصب فى ساحة الخصم، لأنه، وأداء «الجزيرة» شاهد على ذلك، لا يراعى هذه القيم التى ندعو إليها، قيم المهنية الإعلامية وتحرى الحقيقة وتجنب الدعاية الموجهة. وأن التزام فريق بهذه القيم، و«استغلال» أعداء الحرية لها، يعنى أنها ستكون ثغرة فى جانب أنصار الدولة. اسمحى لى: هذا نوع من الحكمة القاصرة. وهذه أسبابى:
أولا: رأينا ما فعلته «الجزيرة» مع حلفائها. لقد أفقدت نفسها الثقة فصار معارضو الإخوان لا يعولون عليها، والمحايدون يتشككون فيها. كما أنها منحتهم كارت بلانش لكى يقولوا ما يريدون دون أن يتحداهم أحد فينتبهوا ويعدلوا سلوكهم. كان أداء «الجزيرة» حبلا مدته «الجزيرة» لحلفائها فخنقوا أنفسهم به. لو فعل أنصار الدولة المصرية من إعلاميين هذا فلن تجنى السلطة منه أفضل مما جنى الإخوان. سيتعامل العالم مع الإعلام المصرى وكأنه مجرد بوق. لن يصدقه حتى إن كان صادقا. وسيكون أداؤه التحريضى دليلا، كما أشرت سابقا، على استبداد السلطة.
ثانيا: ليس هذا من مصلحة المستقبل فى مصر. ليس من مصلحة أى فرد فينا أن تشعر السلطة أن عندها براحا لكى تفعل ما تريد. وليس هذا تقييدا، بل تقويم. قضية السلطة فى دفاعها عن وجود الدولة المصرية قضية سياسية، قوية الحجة، سواء من الناحية النظرية، أو من ناحية سلوك الدول الأخرى التى واجهت إرهابا شبيها، ثم إنها قضية مدعومة شعبيا رغم مرورها بمنعطفات كبرى. نحن لا نحتاج إلى إعلام أعرج إلا لو كنا نريد أن نخرب مستقبلنا. ثالثا: أن أكثر ما يوجع الرأى الضحل مواجهته بحجة متماسكة. أما أكثر ما يقوى الحجة المتماسكة فهو تحديها حتى تزداد تماسكا.
رابعا: مصداقية الإعلام عنصر الجذب الأساسى له. بدون جذب مشاهدين لا قيمة لإعلام مهما كانت إمكانياته. هيئة الإذاعة البريطانية خدمت بريطانيا بمصداقيتها. وقبل أن تقولى لى إن حيادية الإعلام وهم، أؤكد لك أن الحيادية تختلف عن المصداقية. فارق بسيط لكنه موجود. لديك عوامل أخرى تستطيعين أن تخدمى بها جهة تريدين أن تخدميها دون أن تضحى بمصداقية الخبر نفسه. لديك ترتيب الأولويات، وإبراز خبر معين أكثر من غيره، والإضاءة على ملف أكثر من غيره. ولديك أهم خدمة تقدمها «بى بى سى» لبريطانيا وهى ضمان أن يكون الرأى البريطانى فى الموضوع موجودا، وبارزا. إنما، فى البداية، لا بد أن يصدقك الناس. هنا المهارة. سأوجز ذلك كله بأننى لا أريد أن أبحث عن الخبر الصادق بعيدا، لأن الإعلام العالمى، الذى يخاطب أناسا أقل اهتماما بالشأن المصرى، يقدم تغطية سطحية للأحداث لا تفيدنى فى تكوين رأى ذى قيمة حين أكتب مقالا.
لو استمرت المتوالية بهذه الطريقة فهذا معناه آراء مبنية على معلومات ناقصة، وبالتالى خيارات شعبية مبنية على معلومات ناقصة، وسلطة تتصرف دون خشية من مراجعة، أو استفادة من رأى راجح، وهكذا دواليك، تستمر الأضرار بلا توقف.