ذكر دانتى آلجيرى فى معلقته «الكوميديا الإلهية»- ١٣٠٠ ميلادية- «أن أسوأ المواقع فى الجحيم هى تلك التى يوجد فيها هؤلاء الذين يقفون على الحياد فى زمن الأزمة الأخلاقية». وللحق فإن الغالبية الساحقة من الكتاب والمثقفين المشهود لهم لم تقف على الحياد فكريا وأخلاقيا فى المعركة الدائرة فى مصر اليوم، وإنما جرى الفرز والانحياز بين الأغلبية الساحقة الممثلة للشعب المصرى فى تعبيراته فى أيام ٣٠ يونيو و٣ و٢٦ يوليو؛ وتلك الأقلية التى تمركزت قبل فضها فى اعتصامى رابعة العدوية ونهضة مصر التى يخرج منا ما تيسر من مظاهرات واعتصامات وقطع طرق وتعطيل للمصالح العامة بغية تحقيق أكبر قدر من الاضطراب فى الدولة المصرية. فى هذا المعسكر الأخير يقف جماعات الإرهابيين فى سيناء الذين لم يألوا جهدا فى توجيه عمليات العنف والإرهاب ضد المدنيين، والمسيحيين خاصة، والمؤسسات الوطنية، والقوات المسلحة والشرطة، ومن تيسر من الأجانب وتجرأ من السائحين.
إلى هنا تبدو المسألة منطقية، ولا يوجد مكان للحياد أو المحايدين الذين سوف يذهبون إلى أسفل السافلين فى جحيم دانتى، فالأزمة قائمة، والاستقطاب حاد، وهو لم يحدث فقط منذ تم عزل الرئيس د. محمد مرسى، بل إنه مستمر وذائع منذ تمت الإطاحة بنظام ٢٣ يوليو ١٩٥٢ فى طبعته الثالثة تحت حكم الرئيس حسنى مبارك.
ولكن ما هو ليس منطقيا ولا محايدا أن يعتمد مثقفون وفقهاء وكهنة وكتاب من ممثلى تيار «رابعة» و«النهضة» على أدوات الثقافة الليبرالية والفكر الديمقراطى فى محاجاتهم مع أنصار المعسكر الآخر. هذا النوع من الخداع ربما كان ممكنا تفهمه فى مرحلة ما قبل ثورة يناير كنوع من «التقية» السياسية والفكرية، أو للبحث عن القرب من العالم الغربى، ولكن أن يجرى استخدامه بعد الوصول إلى السلطة وممارستها فإنه يصبح نوعا من التدليس الذى يستحق مكانا أسفل من النار لأنه المكان الذى يليق بالمنافقين الذين يقولون بما لا يعتقدون.
لقد سبق لى أن تناولت هذا الموضوع من قبل فى مقال «عندما يصبح الأصولى ديمقراطيا»! (الأهرام ٢٣/٤/ ٢٠٠٧) ومقالات أخرى مشابهة وجدت فيها جماعات من الكتاب الأصوليين يستخدمون مفاهيم الدولة المدنية والديمقراطية والحداثة كنوع من المكايدة مع الدولة المصرية أحيانا، والدول الديمقراطية أحيانا أخرى؛ ولكن هذه المعايير تختفى تماما عندما يقترب الأمر من دول الأصولية الإسلامية فى إيران أو غزة أو أفغانستان أو السودان، وبالتأكيد صار الأمر كذلك عندما أصبحت مصر تحت حكم الإخوان المسلمين.
لاحظ ما يكتب الآن فى الصحافة المصرية من قبل كتاب «إسلاميون» عن حرية التعبير والتظاهر والاعتصام والدولة المدنية غير العسكرية؛ وكيف صار هؤلاء فجأة من الذين يذودون عن الدولة الوطنية التى عليها ألا تقف فى وجه هجمات «المجاهدين» ضد إسرائيل. أصحاب هؤلاء أخيرا أصبحوا من المدافعين عن الدستور- ٢٠١٢ بالطبع- أما ما جرى من قبل فى العهد الإخوانى من حصار للمحكمة الدستورية العليا ومنعها من إصدار أحكامها فيما يخص الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى فقد سقط لأسباب غير معلومة من الذاكرة.
ولكن ذلك أقل أهمية من الدستور نفسه الذى خرج تماما عن إطار الدولة المدنية المصرية بما أقره من «ولاية الفقهاء» على إصدار القوانين، مع تضييق المرجعية الإسلامية وجعلها قصرا على أهل السنة والجماعة. وبمثل هذا الحال فإن البرنامج الذى وضعته جماعة الإخوان فى عام ٢٠٠٧ قد جرى إصداره فى عام ٢٠١٢، ومن ناحية كان فيه من العوار الذى جعل الرئيس السابق يعلن عن الاستعداد لتعديله فور إصداره فى سابقة لم تحدث فى التاريخ. وكانت السابقة على هذا الشكل لأنه كان معلوما أن الدستور لم يصبه العوار فقط بل كانت عملية الاستفتاء عليه أكثر بشاعة عندما جرى التزوير بطريقة فاضحة بعد أن قاطعت الأغلبية من القضاة عملية الاستفتاء وباتت جماعة موظفى الإخوان هى المشرف الرسمى على أصوات المواطنين. جرت الجريمتان- الدستور المطلوب تعديله ساعة إصداره، والاستفتاء الذى جرى عليه- تحت سمع وبصر جماعة الأصوليين «الإسلاميين» ولم يجد فيهما مخالفات ليبرالية تذكر.
الأمر كان ممتدا تحت أنظارهم منذ اتفاق «فيرمونت» الذى جرى فيه استغفال الجماعة الوطنية والتى نقض بعدها العهد والوعد حول الدولة المدنية «بمرجعية إسلامية» فصارت دولة دينية بادعاء مدنى؛ وحتى عملية القمع الوحشى للمتظاهرين حتى سقط منهم ٨٤ قتيلا غير من جرى تعذيبه وسجنه. لم يكن حق التظاهر السلمى فى ذلك الوقت مسموحا به لأن «الاستقرار» ودوران عجلة الإنتاج صار شعار المرحلة؛ وكلاهما كما نرى مستنكر الآن لأن «الليبرالية» تقول بهذا الحق. لم يستقر فى كلام جماعتنا شىء عن الإعلان الدستورى الذى لا شك فى استبداده، ولا شىء عن عمليات الحصار المستمرة لمدينة الإنتاج الإعلامى، ولا عمليات الإرهاب «القانونى» التى قام بها النائب العام السابق.
باختصار شديد كانت الدولة المدنية المصرية تتحول إلى أشلاء، وكانت الجماهير المصرية تدرك يوما بعد يوم مدى الخديعة والنفاق السياسى الذى تعرضت لها على مدى السنوات الماضية. والأخطر من ذلك كله لم يكن عدم الكفاءة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى يتم بها إدارة الدولة المصرية هى القضية، حتى ولو تدهورت أحوال الدولة فى جميع المؤشرات المعروفة عما كان عليه الحال خلال حكم ما قبل ثورة يناير والمتهم دوما بأنه عصر الخراب والفساد والنهب والتزوير؛ وإنما كان التفريط فى الأمن القومى المصرى. المدهش أن المفكر الأصولى أصبح فجأة غيورا على هذا الأمن خوفا من أن تكون المواجهة مع الإرهابيين وحماس بديلا عن المواجهة مع إسرائيل. هكذا يصل النفاق الفكرى والسياسى إلى قمته، فقد كان الرئيس مرسى هو أول من دبر لاتفاق بين إسرائيل وحماس يقوم على وقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل، ولكنه من جانب آخر عمل بكامل طاقته على «تعمير» سيناء بكل أنواع الإرهابيين سواء هؤلاء الذين تم الإفراج عنهم من السجون المصرية، أو هؤلاء الذى تم استجلابهم من أفغانستان وباكستان وحيثما تجرى عملية صناعة الإرهاب.
الآن أصبح المفكر «الإسلامى» قلقا على سيناء وهو الذى لم يقلق يوما على تثقيبها بالأنفاق، ولا كانت لديه مشكلة مع عملية الاجتياح المدنى لها من غزة فى يناير ٢٠٠٨، ولا مع عمليات تهريب السلاح الكثيفة من الطوائف «الإسلامية» المتعددة فى ليبيا والسودان. كل ذلك لم يكن مهما بالنسبة لجماعتنا التى تريد سرقة المنطق الليبرالى والوطنى ليس على أساس من اقتناع واعتقاد، وإنما لأنه ينفع فى مساجلات كلامية، وادعاءات سياسية.
فالحقيقة أن عملية عزل الرئيس السابق لم تكن «خيانة» للعملية الديمقراطية والقيم الليبرالية وصناديق الانتخابات، وإنما كان لمواجهة الخيانة التى جرت لكل هذه القيم. فلم يحدث فى تاريخ الديمقراطية والليبرالية أن كان الحكم لحزب سياسى (الحرية والعدالة) ليس له من دور غير الواجهة، وإنما كان الحكم لجماعة سرية لا يعرف عنها أحد شيئا لا عن أعضائها ولا تمويلها، ولا طريقة إدارتها، ولا علاقاتها الدولية المرتبطة بتنظيم دولى غامض، وخيوط غير مرئية بتنظيمات الإرهاب الدولى. آن الأوان أن يفصح المفكر الأصولى عن وجهه الحقيقى حتى يتبين الرشد من الغى، ويكون الحكم للشعب فى الأزمة الأخلاقية الراهنة.