تلقيتُ الخبر فى الثانية ظهرا. قيل لى: «جنازة» أيمن الشافعى «الساعة اتنين ونص فى جامع الدماطى. لو أردت اللحاق بها فاذهب فوراً».
تركتُ كل ما فى يدى وذهبتُ بسرعة. فى الطريق شرعت أتأمل معالم الحى العتيق، ملامح طفولتى.
مسجد الدماطى مرة أخرى. صحيح أن المسجد القديم قد أُزيل، وتمت إعادة بنائه، لكن البناء الفخم شرع يتلاشى، وعدتُ أرى من جديد ملامح المسجد البسيط، وأرى نفسى فيه والوجوه القديمة، وأرى أيضا «أيمن الشافعى».
كان أيمن الشافعى يكبرنى بعام، ويقطن فى الحى نفسه، فى إحدى البنايات المجاورة. كنا فى أول دراستنا الجامعية، أنا فى كلية الطب، وهو فى كلية الهندسة. أذكره طويلا كعمود نور، نحيلا كقلم رصاص، وكانت ابتسامته لا تُقاوم. شىء فيها برىء وفطرى، أو -إذا شئت الدقة - غير حقيقى. ابتسامة كانت أشبه برسومات الأطفال، حينما يقرر الرسام أن تكون متسعة. من آخر نقطة فى الخد، تحت شحمة الأذن مباشرة، ثم تمتد إلى الجانب الآخر، إلى شحمة الأذن المقابلة! ابتسامة تشبه أن تكون خطا مستقيما تعبر عليها إلى عالم التفاؤل دون أن تتعثر. تريدون الصدق؟ كانت ابتسامته رائعة.
أذكر أيضا أن أيمن الشافعى كان يبتسم كثيرا رغم أن الأشياء التى تجلب الابتسام قليلة. لماذا كان يبتسم إذا رآنى رغم أننى لست من خاصة أصدقائه؟ كان بريئا وصادقا وحقيقيا، وكنت أحب أن أنظر إليه رغم أننى وقتها لم أكن أدرك ذلك.
■ ■ ■
مسجد الدماطى. أعداد غفيرة تجمعت أمام المسجد. أقدرها بألوف كثيرة. داخل المسجد لم يكن هناك موطئ لقدم. كل هؤلاء يحبون «أيمن»!. لا بد أنه كان يبتسم كثيراً.
أذكر أن الأيام توالت، وأصدقاء الصبا كبروا، وامتصتنا دوامة الحياة كثيرا. أنا انشغلت فى عملى الطبى، محاولا أن أكتسب الخبرة، وهو انشغل فى عمله الهندسى. عرفت أنه انضم للإخوان المسلمين، وعرفتُ أيضا أنه صار من أشهر مهندسى طنطا، كانت أمانته لا يرقى إليها الشك، وبناء على هذه السمعة البيضاء كانت الطبقة المتوسطة الميسورة من أطباء ومهندسين يتعاقدون معه على «اتحاد سكان». ما إن يعلن عن بناء عمارة جديدة، حتى يبادر الجميع إلى الاشتراك فيها. كنا وقتها فى عقد التسعينيات. اتسع مجال عمله وصار ميسور الحال مشهورا. والسيارة 128 تحولت إلى بيجو بيضاء.. وحينما كنا نتلاقى بالمصادفة كان يجود بابتسامة كالهلال، لكن بمجرد أن نستعيد ذكرياتنا القديمة حتى ينبسط الهلال ويتحول إلى خط مستقيم.
■ ■ ■
دخلتُ المسجد ودموعى تتساقط. لم أكن أتصور ونحن نتسامر بعد كل صلاة أنه سوف يدخله جثمانا محمولا. قُتل «أيمن الشافعى» فى فض اعتصام رابعة، فلماذا قُتل؟ مثل هذا لم يكن ليحمل السلاح أبدا. أشهد أننى ما رأيته إلا إنسانا خلوقا وديعا مبتسما مجاملا. فلماذا ضاق الوطن بنا، حتى صرنا نقتل بعضنا بعضا!!
مر النعش من أمامى داخلا المسجد وسط الشهيق والبكاء. ألقيت بالسلام عليه فلم أدر هل سمعنى؟ لكن المؤكد أننى شاهدت ابتسامته تتسع من الأذن إلى الأذن! والمؤكد أيضا أن قطعة من صباى قد ماتت إلى الأبد، وإننى حين كنتُ أصلى عليه كنت أصلى على نفسى، وأصلى على وطنى.