الجريمة التى لن يستطيع الإخوان الدفاع عن أنفسهم فيها هى اعتداؤهم على الكنائس وعلى منازل وممتلكات المسيحيين، بعد أن جرى فض تجمعاتهم فى رابعة والنهضة، ومهما بذل الإخوان من جهود للاعتذار أو التبرير أو الإنكار، فقد قُضى الأمر وسطر التاريخ بالفعل هذه الجريمة فى سجلهم الأسود.
بل إنهم يقطعون على أنفسهم فرصة أن يجد لهم أحد عذرا مخَفِّفا بسبب ما يقوله بعض جهلائهم بأن المسيحيين حرقوا كنائسهم بأنفسهم ليلصقوا التهمة بالإخوان!!
وبرغم هذا العدوان المادى الهمجى الذى لا يمكن تقبله أو السكوت عليه بأى حال من الأحوال، فإنه لم يصدر صوت قبطى يُعتَدّ به يطالب بتدويل قضيتهم، بل على العكس كان الكلام الوطنى الحكيم الذى يُدهشك هدؤه من قداسة البابا تواضروس بان ما حدث فى كنائس مصر هو خسارة للمصريين كلهم وليس للمسيحيين فقط.
قارِنْ هذا الكلام بصراخ الإخوان من على منصات اعتصامهم بالمطالبة بالتدخل الأجنبى لحمايتهم، بزعم أنهم أصحاب حق مُهدَر، وأنهم نالوا شرعيتهم بالديمقراطية وحققوا نجاحات غير مسبوقة فى الحكم، وأنهم يتعرضون لقهر مُنظَّم متواصل على أيدى انقلابيين مستبدين معادين للديمقراطية، وأن هناك مؤامرة ضدهم يقودها الجيش ويسوق فيها الشعب المغيَّب، وأن معارضيهم هم مجرد بضعة آلاف دون جذور جماهيرية..إلخ إلخ
قد يمكنك أن تجارى عقلية الإخوان المتحللة من روادع الإنسانية، وقد تجد فى منطقهم السقيم تفسيرات، وفق ما يرون وما يبتغون، عن عدوانهم على أقسام الشرطة بحجة أنهم يريدون الانتقام من الضباط والجنود، وبنفس المنطق يمكن أن تتناول عدوانهم على سجون الأقاليم ومحاولة اقتحامها! ولكن أى عقل مريض أجاز لهم مجرد التفكير فى العدوان على الكنائس بعد فضّ حشودهم المسلحة التى كانوا يسمونها اعتصاما؟ ما هى العلاقة بين المسيحيين وبين تفعيل القانون عليهم؟ ما هو المنطق وراء فعلتهم؟ وما هو المكسب الذى سيعود عليهم من جرّائها؟ وكيف لم يكبحهم الحزن الذى سيحل على قلوب المسيحيين والهَمّ الذى سيتلبس كل دعاة الوحدة الوطنية؟ أليس ما فعلوا هو أكبر دليل على دجلهم السياسى الذى يدارون به أفكارهم الحقيقية عندما يزعمون أنهم جادون فى دعايتهم الانتخابية بأنهم دعاة دولة المواطنة والمساواة التى لا تعرف فروقا بين مواطنيها على أساس الدين أو على أى أساس آخر؟
ألا يدركون أن هذه الجريمة مسمار هائل فى نعش تجربتهم فى الحكم، التى قُيِّد لهم أن ينالوها فى غفلة من الزمان لا يمكن أن تتكرر، وأنها تزيد عن فشلهم المحقق فى كل مسؤوليات الحكم وأمانته؟
لقد آن الأوان للتوقف عن التهاون فى حقوق الأقباط، خاصة فيما يتعلق بالمساس بحرمة الكنائس وبحقهم فى ممارسة شعائرهم وفق حقوق الإنسان المعتبرة التى صدَّقت مصر على عهودها الملزمة، كما أنه لم يعد من اللائق للثورة المصرية أن ترضى بتعطيل القانون وأن تعتمد بدلا عنه المجالس العرفية التى تعقب كل جريمة عدوان على الأقباط، ويُكتفى فيها بكلام مكرر ممل عن وحدة عنصرى الأمة والنسيج الواحد الذى يربطهما، وتُقبَّل اللحى والرؤوس، ويهدأ الحال إلى حين، ثم تقع جريمة أخرى ليتستر عليها مجلس عرفى آخر! ولا تنس أنه قد عُقِد مجلس من هذا قبل أسبوع واحد من الجريمة الأخيرة، ساوى فيه كالعادة بين المجرم والضحية، وقرر أن يدفع المعتدى بعد ذلك غرامة للضحية مليون جنيه، وألزم الطرفين على الإعلان عن إخلاص النية بعدم تكرار الجريمة! وكأن الأقباط فعلوها قبلا! ولم يكن غريبا أن تجيئ الجريمة الأخيرة بعد أيام!!
لنبدأ من الآن التعامل القانونى مع المتهمين ليدركوا أن الثورة جادة فى حماية مواطنيها، كل مواطنيها، من المعتدى، أى معتدٍ.
فهذا أمر لا يقل فى الأهمية، بل يزيد، عن العمل الجاد الذى تُشكر عليه القوات المسلحة فى السعى لمجازاة المجرمين الذين قتلوا جنودنا غيلة قبل عام، والآخرين الذين خطفوا جنودا آخرين قبل أشهر.
وأيا ما كانت وجهات النظر أو التحفظات على الطريقة التى فُضّ بها اعتصاما رابعة والنهضة، فقد وصلت رسالة قوية عن جدية العهد الجديد فى التصدى لمن يرفع السلاح ويستخدم العنف أو يحرض عليه أو يدعو له.
مع ضرورة الانتباه إلى أن القضاء على العنف هو مجرد تهيئة لمناخٍ صحى عام، ودون ذلك لا يمكن الكلام عن إمكانية تحقيق شعارات الثورة التى خرج الشعب من أجلها ودفع فيها أغلى ما لديه بتضحيات الشهداء والمصابين.
وهذه رحلة طويلة وموجها عالٍ ولا بد فيها من طول النَفَس والمناورة واستطلاع المسار كل دقيقة للاطمئنان إلى صحة الاختيارات، ومن المفيد والمستَحْسَن أن يتنحى عن المشاركة كل من يخشى على نفسه من الأنواء.