لا شك أن الرئيس الأمريكي باراك حسين أوباما في مأزق لا يحسد عليه. فبعد فضيحة "ووترجيت – سنودن" والفشل الأمريكي في أفغانستان والعراق وليبيا ومصر وتونس وسورية، لم يعد أمام أوباما إلا إصدار تصريحات أقرب إلى تصريحات رؤساء جمهوريات الموز. وما يزيد الطين بلة، أن إدارة أوباما لم تعد قادرة بالفعل على إدارة السياسة الخارجية الأمريكية بعقائدها الثابتة والمتحركة، لدرجة أن بقية الضِّباع الكبار بدأوا يتململون من "القطبية الهشة" للولايات المتحدة. ولم تعد حِيَل واشنطن مع روسيا والصين تنطلي على قيادات دول مثل روسيا والصين والهند...
غير أن السيناريو الأمريكي المتحرك الذي قفز على ثورات شعوب شمال أفريقيا والشرق الأوسط ضد الأنظمة الاستبدادية، التي كانت ترعاها واشنطن لآخر لحظة قبل سقوطها، يكاد ينهار أمام انهيار نظام الإخوان المسلمين في مصر، وبوادر سقوط منظومة الإسلام السياسي التي اعتقدت واشنطن أنها البديل الجاهز، أو الذي تم تجهيزه جيدا، للأنظمة الاستبدادية.
الرئيس الأمريكي باراك حسين أوباما دان، في تسجيل صوتي تم بثه يوم الخميس 15 أغسطس، استخدام القوة من جانب الدولة المصرية لفض اعتصام أنصار الرئيس المصري المعزول محمد مرسي. وأعرب عن قلقه من تدهور الوضع في مصر. كما ألغى أوباما المناورات العسكرية المشتركة "النجم الساطع"مع الجيش المصري، ودعا السلطات المصرية إلى رفع حالة الطوارئ التي تم فرضها اعتبارا من يوم الأربعاء ١٤ أغسطس الحالي.
من جهة أخرى، وأكد الرئيس الامريكي أيضا أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تقرر مصير مصر، مضيفا أن المصريين هم من يجب أن يقوموا بذلك. وقال إن الولايات المتحدة ترغب في أن ترى مصر دولة ديمقراطية ومزدهرة تعيش بسلام. وكرر أن تحقيق ذلك هو مهمة خاصة بالمصريين أنفسهم بالذات. وشدد على أن الولايات المتحدة لا تنحاز إلى أي طرف من الأطراف المصرية، مشيرا إلى أن واشنطن واجهت اتهامات من قبل، سواء من جانب أنصار مرسي أو من جانب خصومهم بدعم الطرف الآخر. وأضاف أن توجيه هذه الاتهامات لن يساعد المصريين على بناء دولة ديمقراطية.
هذه هي تصريحات الرئيس المأزوم فعليا والذي يصر على عدم رؤية ما يجري على أرض الواقع. وفي الحقيقة، لا يمكن أن يلوم أي أحد الرئيس أوبام الذي يلتزم بالحفاظ على مصالح بلاده كقوة عظمى ووحيدة على الكرة الأرضية كما يتصور الأمريكيون، وكما تؤكد عقائدهم العسكرية والاقتصادية والجيوسياسية. من حق كل دولة أن تحافظ على مصالحها. وهذا تحديدا ما تفعله تركيا وبريطانيا وفرنسا وقطر في علاقاتها بالملف المصري عموما، وبملف قوى الإسلام السياسي في المنطقة. لا مجال هنا للحريات والحقوق المدنية والعنصرية والطائفية وحقوق الإنسان. بل وتمكنت مثل هذه الدول من تضليل الأمم المتحدة، وربما الضغط على أمينها العام بان كي مون وتهديده بعدم التجديد له مرة أخرى، فخرج يدين ويشجب ويطالب.
ما حدث في مصر يفسد، بلا شك، الطبخة السياسية التاريخية التي أعدتها الولايات المتحدة وحلفها الأوروأطلسي وحلفائها الإقليميين للمنطقة. ويبدو أن واشنطن ولندن وباريس كانت تتصور أن الأمور ستسير على خطوط مستقيمة بعد إسقاط حكم اليمين الديني المتطرف في مصر، ومن الممكن تهيئة الأوضاع في إطار مصالحة وطنية مع التيارات الطائفية المتطرفة لتصبح ليس فقط شريكا في الحكم، بل وأيضا بديلا واقعيا في أية لحظة. بينما يكون البديل لهذه المصالحة، هو السيناريو العراقي أو الليبي أو السوري أو سيناريو على هذا النسق. ولكن من الواضح أن الإخوان المسلمين لم يكونوا بهذه القوة التي صوروها لواشنطن وحلفائهم الغربيين الآخرين، وربما تمكنت الدوحة من خداع واشنطن بإمكانياتها الأضعف من أن تستطيع ترتيب أوراق المنطقة. ففي الوقت الذي بدأ فيه انهيار النظام اليميني الديني المتطرف، والمتلفح بالعلمانية، في تركيا الأردوغانية، انهار بالفعل مثيله الديني المتطرف ذي الثوب الظلامي الرجعي في مصر. وفي الوقت نفسه تتداعى الأمور في تونس الغنوشية وفي العراق، وتنهار قواعد المنظمات الإرهابية في سورية والمدعومة مباشرة من واشنطن ولندن وباريس.
المشهد السياسي الدولي يتغير أمام التحولات التي تجري في مصر. وبدأت الصقور المتمثلة في تركيا وفرنسا وبريطانيا تفصح عن نواياها الحقيقية وتكشر عن أنيابها. وفي النهاية كشفت الإدارة الأمريكية عن وجهها الحقيقي بدون رتوش أو حقوق إنسان أو مواطنة وتحديث ومجتمع مدني. لقد بدأت مرحلة العقاب، لا بسبب الإطاحة الكاملة بالقوى اليمينية الدينية المتطرفة فحسب، وإنما أيضا بسبب حالة التكتل المجتمعي والاجتماعي في مصر ليس بالضبط خلف المؤسسة العسكرية أو نظام فلولي معدل، بل خلف مشروع وطني يتحدث الجميع حوله ويصرون على تنفيذه بصرف النظر عن رضاء المؤسسة العسكرية التي لعبت دورا هاما في تخليص المصريين من الرجعية والظلامية.
من الواضح أن الولايات المتحدة وحلفها الأوروأطلسي يدركان جيدا أن التحولات السياسية والتشريعية والاجتماعية تسير دوما إلى الأمام ولا يمكن إعادتها إلى الوراء بأي حال من الأحوال. هذا هو قانون التحول والتطور. وبالتالي، تدرك واشنطن وحلفاؤها أن المصريين لن يرضوا بحكم عسكري أو ديني. لقد انتهت هذه المرحلة إلى الأبد. ومن ثم لم يعد أمامها إلا وسائل الضغط الإعلامي والسياسي والعسكري والاقتصادي. فهل تتذكر واشنطن أن مناورات النجم الساطع لم تجر في عام ٢٠١١؟ لم يتضرر الجيش المصري كثيرا. وهل تعتقد الولايات المتحدة أن تجميد صفقة مقاتلات إف ١٦ مع مصر يمكنها أن تغير شيئا؟! الكل يعرف أن الولايات المتحدة لا تحب الهزائم والفشل، ولديها القدرة على تدمير خصومها على كل المستويات وفي كل المجالات. ومع ذلك، من المستبعد أن تجرؤ واشنطن على تنفيذ أي من سيناريوهاتها التدميرية في مصر في حال تمكن المصريون من إعداد دستور مواطنة يؤسس لدولة حديثة وعصرية، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية شفافة ونزيهة وفقا للدستور المصري الذي لا يكرس لطائفية أو عنصرية!
من جهة أخرى، يبدو أن ورقة المسيحيين في مصر قد اختفت فجأة من أمام أعين الصقور الغربيين، وحلت محلها ورقة المظلومين والمكلومين من التنظيمات الإسلامية التي تعرف واشنطن جيدا علاقتها بكل المنظمات الإرهابية وتاريخها الدموي وتطلعاتها الطائفية. ولكن المصالح مصالح. إن حلفاء واشنطن، التي أصبحت الآن تنكرهم على لسان رئيسها، يقومون في وضح النهار ليس فقط بحرق الكنائس في مصر، بل وأيضا بقتل المصريين وهم يخرجون من كنائسهم بعد الصلاة أو الاحتفالات الدينية. فهل تفاجئنا الصقور الغربية، وعلى رأسها واشنطن، بتبديل أوراق الللعبة الطائفية، ليبدأ الحديث عن الظلم الواقع على التنظيمات الإسلامية، وبالتالي المسلمين، بدلا من نعيقهم الدائم لسنوات طويلة علي القهر والعنصرية والإرهاب الذي يتعرض له المسيحيون؟!
الكرة الآن في ملعب النظام السياسي المصري المؤقت. أمريكا ليست العالم كله، وبريطانيا وفرنسا هي دول كبرى ولكنها ليست نهاية الكون. إن القضاء على الطائفية والظلامية في مصر وتنفيذ خارطة المستقبل كما وردت والالتزام بعدم إعادة مصر إلى الوراء وإنهاء كل تشوهات الأنظمة العسكرية والاستبدادية والدينية مجرد خط واحد فقط من الخطوط التي يجب أن يسير عليها النظام المؤقت الذي فوضه المصريون جميعا لإدارة المرحلة. هناك خطوط تنويع العلاقات الإقليمية والدولية. والحديث لايدور عن الانضمام إلى أحلاف وتكتلات دولية، بقدر ما يدور عن وجود قنوات لتنويع العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية.. هناك مجموعة "بريكس" (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا). وهي الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم، وتشكل مساحة هذه الدول ربع مساحة اليابسة، وعدد سكانها يقارب 40 % من سكان الكرة الأرضية ومن المتوقع بحلول عام 2050 أن تنافس اقتصادات هذه الدول اقتصادات أغنى الدول في العالم حاليا. هناك أيضا "منظمة شنغهاي للتعاون" والتي تضم كلا من الصين وروسيا وكازاخستان وقيرغيزيا وأوزباكستان وطاجيكستان، بينما الهند وإيران وباكستان أعضاء مراقبون! وباتلمناسبة، ستعقد قمة شنغهاي في العاصمة القيرغيزية "بشكيك" يومي ١٢ و١٣ سبتمبر!
العالم أوسع بكثير من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا، وقطر الكبرى! وبالتالي، فالكرة الآن في ملعب مصر والمصريين والنظام السياسي المؤقت الذي يجب أن يترك بعده ما يمكن الاعتماد عليه والبدء منه.