كان وصول جماعة الإخوان ذات الهوية الطائفية المغلقة الخاصة إلى الحكم فى يوليو ٢٠١٢، والتأكد سريعا من نياتها التى لم ينخدع فيها من كان لديه حد أدنى من المعرفة بواقع هذا البلد وليس صورته المتوهمة، إعلانا عن بدء الصراع المجتمعى المفتوح بين الجميع ضد الجميع: بين البدو ضد الشرطة والجيش، وبين قبائل الصعيد ضد سلطة القاهرة المركزية، وبين سكان المدن والمتعولمين ضد المهاجرين من الريف والمهمشين، وبين المحافظين والإصلاحيين والثوريين داخل كتلة سكان المدن والعاصمة، وبين جيل الشباب ضد الآباء، وبين الأجنحة الليبرالية واليسارية والإسلامية داخل الطبقة الوسطى، وبين موظفى الحكومة ضد الحكومة، وبين السلطة الرسمية الجديدة ضد القضاء، وبين رجال الأعمال الجدد ضد القدامى، وبين الإخوان كطائفة/قبيلة ضد غيرها من القبائل الأخرى سواء القبائل الدينية أو العائلية، وبين السلفيين ضد الخطر الشيعى، وبين المسلمين المتدينين ضد المسيحيين المتدينين.
كان يبدو أن الإخوان أنفسهم لم يستوعبوا حجم التغيير التاريخى المطلوب حدوثه لكى تستتب لهم السلطة. فالأمر لم يكن مقتصرا على الدولة، سواء بقشرتها الحديثة أو عمقها التقليدى، وإنما كان مطلوبا تغييرا تاريخيا جبارا فى ترتيبات المجتمع وعلاقات مكوناته ببعضها البعض. كان ببساطة، وبأكثر درجة ممكنة من الوضوح، تغييرا لا يمكن حسمه إلا بقوة السلاح وأن يُفرَض فرضا على المجتمع. كان الإخوان يتصرفون ببساطة وكأنهم مجرد إدارة ديمقراطية تأتى على رأس دولة راسخة الاستقرار والتجربة الديمقراطية، وليس دولة أتعبها تفسخها على مدار سنتين، واكتشفت أن بجوفها من الأثقال ما يجعلها تنظر بأمل إلى من يخفف هذه الأثقال عنها ويسكنها وليس من يستثيرها للحركة وإطالة الألم وتعميقه.
وبالتالى، فلم يستدع أحد الجيش للظهور مجددا فى المشهد السياسى يوم ٣-٧ سوى الإخوان. الإخوان مثلوا فكرة الطائفة، الجماعة، التقليدية، ما قبل الحداثة (وإن كانوا هم ظاهرة حداثية)، الولاء للدين وليس للأرض (صنعوا التناقض الذى لا وجود له فى الواقع). الإخوان عبروا عن ودفعوا الأمور فى اتجاه عودة الدولة لما قبل ١٨١١، طوائف متناحرة، فصائل مذهبية وجهوية تدافع عن وجودها، خطاب سياسى وثقافى يُضعف ويقوض هوية الدولة الحديثة فى عقول وقلوب «المواطنين»، كان التلخيص الأدق والأبرز لكل هذه المرحلة هو وصف «الأهل والعشيرة».
بمنتهى البساطة تجاوزها المحللون باعتبار التركيز عليها مزايدات إعلامية معارضة، لم يشعروا بما شعر به المواطنون العاديون الراغبون فى «دولة» من شعور بالإهانة والتحقير.
كان طبيعيا، ومنطقيا، ومتوقعا، أن يتم استدعاء الجيش لهذا المشهد. اللا دولة تستدعى بالضرورة الدولة. التقليدية تستدعى الحداثة (نعم الجيش يمثل حداثة الدولة فى مصر أيا كانت تحفظاتك على الحداثة والدولة!). الطائفة تستدعى الأمة. الهوية السياسية الدينية تستدعى الهوية السياسية الجغرافية/التاريخية. التفكك يستدعى التماسك. الانقسام يستدعى الوحدة. والأهل والعشيرة يستدعون المواطنة.
لم يتوقف المتابعون كثيرا أمام حقيقة كانت واضحة يوم ٢٤ يونيو ٢٠١٢. المجتمع السياسى المصرى (نحو ٢٥ مليون شخص ناشط سياسى أو انتخابى) منقسم بين اتجاهين رئيسيين واضحين: الدولة والعشيرة. ما لم يفهمه الإخوان أن كثيرا من بين من صوتوا لهم فعلوا ذلك لحسابات لا علاقة لها بتفضيلهم بالعشيرة. هؤلاء انقلبوا على الإخوان بعد شهور من حكم العشيرة وأدركوا عمليا معنى الدولة وبعد سنة بالظبط كانوا جميعا فى الشارع يطالبون برحيل العشيرة وعودة الدولة.
الآن هناك كتلة تاريخية historic bloc - بالمعنى الجرامشى - مكونة من الجيش وأكثر من نصف المجتمع السياسى تطالب وتعمل من أجل مجرد عودة الدولة أو لدقة أكبر: تأسيس الدولة الحديثة الثانية فى مصر.
يخطئ من يعتقد أن هذا التكتل فاشى أو يريد تأسيس ديكتاتورية عسكرية.
ويخطئ أيضا من يعتقد أن هذا التكتل ديمقراطى ثورى يستكمل ما بدأ فى ٢٥ يناير.
هذه كتلة تاريخية، تأسست فى وقت شعور غير مسبوق بالخطر، فى لحظة حقيقة ساطعة نادت كل شخص فوق أرض مصر بتحديد خيار واحد من اثنين. هذا تكتل يريد دولة مواطنة حديثة. يريد التأسيس الثانى لها بعد دولة محمد على. يريد معادلة شرعية جديدة لا تسمح بتكرار عيوب الدولة الأولى. مساواة قانونية بين جميع السكان. عدم مخاطرة ومجازفة بمقادير ملايين المصريين لتحقيق أهداف خاصة لجماعات أو أفراد بعينهم. هذا ليس تكتلا يبحث عن ناصر جديد وإن بدا ذلك للبعض. جرب أن تحاول إعادة التاريخ للوراء وسترى بعينك تفكك هذا التكتل فورا وتفتته مجددا لأطياف وشرائح متناحرة.
فى مصر الآن تحالف تاريخى بين قطاع ضخم من الشعب وبين مؤسسات دولته. هى لحظة لا تتكرر كثيرا فى تاريخ الشعوب. لحظة تنبنى عليها دول وتزول مخاطر تحيط بهذه الدول. لحظة تحتاج لمن يفهم محتواها بدقة ولا يتردد فى المضى قدما نحو المستقبل الذى تريده القوى الحية فى هذا البلد. هذا المستقبل وحده هو منبع شرعية الدولة الجديدة، وليس أى شىء آخر.