أبدأ بتحية إكبار وإجلال لأرواح شهدائنا الأبرار من رجال جيشنا الباسل وشرطة مصر التى ساعدتنا جماعة الشر على استعادتها إلى حضن الشعب الدافئ (ربما هذه هى الفائدة الوحيدة لوجود تلك العصابة فى دنيانا).
تحية لهؤلاء الشباب الطاهر الذى سقط أمس صريعا أو جريحا برصاص الإجرام والخيانة الذى عشش على مدى شهر ونصف الشهر فى بؤرتى العفن بمنطقتى رابعة العدوية ومحيط جامعة القاهرة.
ثم اسمح لى أيها القارئ الكريم أن أثنى بثناء وإعجاب لم أجرب التعبير عنهما ولا مرة واحدة طوال حياتى، بهذا الأداء المهنى المنضبط والراقى الذى توسلت به قوات الشرطة وهى تنفذ صباح أمس مهمة وطنية تأخرت لكنها أخيرا تحققت، وأزالت من على وجه الوطن «مستوطنتين» قذرتين كانتا تغصان بشتى صنوف الإجرام والتوحش والسفالة فى أحط وأوطى تجلياتها.
ولكن قبل أن أترك باقى المساحة لسطور نشرتها هنا (تحت العنوان نفسه) بعد أيام قليلة من الخروج الأسطورى لشعب مصر يوم الثلاثين من يونيو الماضى لكى ينفذ بيده قراره النهائى بإسقاط ودحر مشروع الفاشية والخراب الشامل، لا أستطيع الإفلات أو التملص من التعبير وجع الحزن والأسى والأسف لكل قطرة دم سالت (مهما كانت هوية صاحبها) بسبب أن مجرمين هاربين من وجه العدالة استبد بهم الجنان الرسمى لدرجة الظن أن بمقدورهم هزيمة مصر شعبا وجيشا ودولة، وإجبارها بالعربدة والبلطجة وبدعم أسيادهم فى واشنطن، على الاستسلام والركوع!
وبعد، فقد كتبت مطلع الشهر الماضى هذه الحكاية:
«مساء يوم الأربعاء الماضى، وبينما مصر كلها تزغرد وتغرد فرحا فى شوارع وميادين البلاد من أدناها إلى أقصاها احتفالا بإعلان جيشنا الباسل أنه وضع توقيعه الرسمى خلاص على الحكم النهائى البات الذى أصدره الشعب وقضى بإسقاط حكم عصابة الإجرام الفاشية السرية ودفن مشروعها التخريبى فورا وإلى الأبد، استوقفنى شاب وأنا فى خضم ضجيج مهرجان الفرح العارم، وبعد أن هنأنى الشاب بحرارة سألنى بلطف وهو يبتسم ابتسامة ساحرة: يا ترى فى أى شىء ستكتب حضرتك الآن بعدما ذهبت جماعة الشر فى ستين داهية؟!
ثم أردف قائلا: لقد ألح علىَّ هذا السؤال نفسه فى فبراير 2011 عندما سقط نظام مبارك وولده الذى كنت أنت أيضا تعارضه وتلهب قفاه بالنقد اللازع، لكن سرعان ما أهداك حظ البلد السيئ شيطان «الجماعة» المدحورة ووفر لك ولأمثال حضرتك من الكُتاب والصحفيين والإعلاميين موضوعا يوميا للنضال بالكلمة.. طيب دلوقتى ماذا ستفعلون؟ وفى أى شىء ستوجهون طاقة النقد التى تعودتم عليها؟ السؤال ده طبعا سيكون بلا معنى لو كنت حضرتك تعتقد أن قدرنا أن نتخلص من مصيبة لنقع فى بلوة مسيحة أخرى.. هكذا قال الشاب قبل أن يسكت منتظرا إجابتى، غير أننى بادلته صمتا بصمت استمر وقتا أظنه طال نسبيا، ليس لأنه باغتنى بسؤال لم يرد على خاطرى ولا إجابة له عندى، وإنما لسبب عكسى تماما، فالحق أننى سبق أن واجهت نفسى بهذا السؤال، أو بالأحرى شطره الأول، بعد أن سحقت ثورة 25 يناير نظام حسنى مبارك.. وقتها وبينما الأحلام الحلوة تحلق بنا فى أعلى سماوات التفاؤل، صارحت نفسى بحقيقة أننى لم أعش منذ بواكير الصبا وحتى ضرب الشيب رأسى، يوما واحدا فى ظل نظام حكم رشيد وغير فاسد وتابع ومنحط، ويكفى أن عصر «المخلوع الأول» وولده استهلك أكثر من ثلثى سنين عمرى.. لهذا تساءلت بعد هذه الثورة المسروقة أن كنت سأعرف الكتابة من موقع مختلف عن موقع المعارض الشرس أم سأخفق فى كسر ومخالفة عادة طالت وبلغت حدود الإدمان.. غير أننى أيامها قررت أن الدنيا واسعة ورحبة وثرية جدا بما يوفر لأى كاتب مليون موضوع غير النقش بسن القلم على أقفية الحكام الظالمين المفسدين فى الأرض.
بيد أن جماعة الشر كما قال الشاب لم تمنحنى ولا منحت الوطن فرصة لرؤية أحلامنا الثورية وطموحاتنا المشروعة وهى تهبط من فضاء الأمانى إلى أرض الواقع المعيش، فقد شرعت فورا فى سحق أجمل الأحلام وبدأت بسرعة فى تنفيذ عملية سطو مسلح على حاضرنا ومحاولة خطف مستقبلنا ومستقبل أولادنا، وعافرت وعربدت بشتى وسائل الإجرام لجرجرة المجتمع والدولة إلى مستنقع البؤس والتخلف والخراب الشامل، وهو ما أجبرنى على البقاء فى خندقى المعتاد محروما من الكتابة فى شىء جديد مختلف عما تعودت عليه طوال سنين عمرى.
استحضرت كل هذا فى فترة الصمت التى تحملها الشاب بصبر، وأخيرا تكلمت وقلت له: أولا يا بنى، ليس قدرا أبدا أن نخرج من نقرة لنقع فى كارثة، بل بالعكس، شعب بهذه القدرة الخرافية على البطولة واجتراح المعجزات لهو خليق وجدير بالتقدم والانتصار على الشر وبناء وطن أكثر جمالا وروعة يزهو بالحرية والعدالة وينعم بنور العلم.. وإذا كنت تسألنى إن كانت هزيمة العصابة الفاشية المجرمة سوف تضعنا على أول الطريق الطويل للنهوض والخلاص النهائى من البؤس والعدم وقلة القيمة، فإجابتى نعم، من دون شك ولا تردد.
أما ما يشغلك بشأن عبد الله الفقير، فإننى مستعد يا سيدى للكف عن الكتابة أصلا، لو عاندتنى العادة ولم أعرف السبيل إلى بستان الحياة الغنى بعدد لا يحصى من القضايا والموضوعات الصالحة للتناول بعيدا عن فيض بلاوى الفاشيين والمجرمين..
قلت للشاب هذا الكلام فى حمأة الحماس والفرح، ولم أكن أعرف أننى مضطر لتأجيل تنفيذ الوعد أياما أو أسابيع قليلة، لأن المجرمين المدحورين يصرون على أن يختموا قائمة جرائمهم فى حق الوطن والناس بجريمة أكثر خسة وأشد بشاعة.. جريمة الخيانة الفاجرة والاستقواء بالأجنبى على بنى وطنهم، فضلا عن إطلاق عصابات الترويع والقتل الجوالة فى شوارع وطرقات البلاد، ربما لئلا يخرجوا فقط من الحكم والسياسة، وإنما لكى يُستأصلوا ويتم كنسهم نهائيا من حياتنا كلها.