يظل نصر السادس من أكتوبر أهم علامات التاريخ المصرى نصوعاً، هذا اليوم الذى تمكن فيه جيش مصر من تحقيق ما شكك كثيرون فى تحقيقه، تمكن المصريون من إسقاط أسطورة بدا كأنها عصية على السقوط. تمكن المصريون من وضع نهاية لمقولة «الجيش الذى لا يُقهَر»، بعد أن قهره المقاتلون المصريون. هذا الانتصار الكبير ظل كثيرون يشككون فيه، اعتمادا على ما اصطُلح على تسميته «الثغرة»، ووصل الأمر ببعض المؤرخين الكارهين إلى أن يعتبروا نتيجة حرب أكتوبر هى هزيمة مصرية ونصر للجيش الإسرائيلى، بسبب هذه «الثغرة».
وللتذكير فإن «الثغرة» جاءت نتيجة عمليات تطوير الهجوم، فى 14 أكتوبر، ومشاركة مؤخرة الجيش الثانى فى دعم وحدات الجيش الثالث الميدانى، ما أدى إلى إخلاء مساحة طولها ميلان وعرضها ميل استغلتها القوات الإسرائيلية، فتقدمت بقوة 7 دبابات و3 مدرعات و250 فرد مشاة، بقيادة أرئيل شارون. وقامت وحدات الجيش الإسرائيلى بمهاجمة وحدات الدفاع الجوى المصرية، المتواجدة غرب القناة، وأَسْر الجنود المصريين. ولم يتم التعامل بالشكل والسرعة المتوقعة من الجيش المصرى، ما أدى إلى تدفق القوات الإسرائيلية على منطقة غرب القناة. ليس هنا مجال الحديث التفصيلى عن «الثغرة»، لكنها كانت عنصرا سلبيا فى تاريخ حرب أكتوبر، واستغلتها إسرائيل فى عمليات التفاوض التالية.
لماذا الحديث عن «الثغرة» اليوم؟ ما دفعنى لذلك هو الشعور بأننا نمر بموقف مشابه، اليوم، لما حدث منذ أربعين سنة. لقد تمكن المصريون شعبا وجيشا من تحقيق نصر مهم سوف يذكره التاريخ، وتَمْتَنّ له الأجيال القادمة، لإنقاذ مصر من عملية خطف خارج التاريخ والثقافة، وإعادة مصر إلى الطريق الصحيح، كدولة مدنية وسطية وطنية يدين أهلها بالولاء لها. وكان إعلان الثالث من يوليو تتويجا لهذا الزخم الشعبى لاستعادة مصر. إذن يمكن براحة بال أن أُشَبِّه ذلك الفعل بيوم نصر السادس من أكتوبر. إذن أين «الثغرة»؟
«الثغرة» هنا هى حالة أكثر منها فعلا على الأرض، فقد سمحنا بهذه الحالة نتيجة أسباب متعددة على المستويات المختلفة، الشعبية والسياسية، وقبل ذلك الأمنية والعسكرية. ملامح «الثغرة»، اليوم، متعددة يمكننا أن نلمسها ونراها ونسمعها. قد يكون ما حدث ويحدث فى «رابعة والنهضة» هو التجلى الأكبر والأكثر وضوحا فى تطبيق مفهوم «الثغرة» على الأرض، إلا أن هناك أشكالا أخرى سوف أحاول التوقف عندها، لمحاولة فهم الأسباب التى أدت إليها.
قد يكون أول ملامح «الثغرة» قد ظهر فى الأيام الأولى، ويمكن تسميته «الثغرة السياسية»، التى بدأت مع اعتماد العنصر الحاكم الفصال السياسى، منذ اللحظة الأولى، ولتفسير ذلك أقول إن الشعب عندما نزل إلى الشوارع، فى الثلاثين من يونيو، لم ينزل ليستدعى الأحزاب والقوى السياسية التقليدية، ولكنه نزل لهدف واحد فقط هو الإطاحة بالإخوان، واستدعى طرفا واحدا فقط أعطاه ثقته هو الجيش المصرى الذى لبى النداء، وأطاع الأمر، وانحاز إلى الشعب، صاحب الشرعية الحقيقية. لذلك كان أول ملامح الخلل هو استدعاء القوى التقليدية من أحزاب وأشخاص وجماعات، لتتولى الدور المهم - المعطل على الأقل - فى صياغة المستقبل، وإدارة البلاد. كان أحد الأخطاء استدعاء هذه القوى، أحزابا وأشخاصا، ليكون لهم قول مؤثر فى الخطوات التالية من تشكيل الحكومة، وكتابة الإعلان الدستورى. لقد تسبب هذا الوضع فى إدخال عناصر لعبت وتلعب دورا معرقلا للتقدم إلى الأمام، ولا تضع فى حسبانها إلا تحقيق الانتصارات الصغيرة والمكاسب قليلة النظر، على حساب مصلحة الأمة، حتى لو ادَّعَت عكس ذلك. هذا الواقع سمح بوجود شخصيات، داخل دائرة الحكم والسلطة، لا تستطيع ولا ترغب فى التخلص من انتمائها وحساباتها الشخصية، لذلك أصبحت هناك أصوات داخل دائرة صنع القرار أعمت أعينها عن رؤية توجهات ومطالب الجماهير، ووضعت عوضاً عنها توجهات ومطالب أخرى تصب فى الرؤية الخاصة بكل شخص منهم. هذه الحالة يمكن أن يطلق عليها الحالة «البرادعية». وهنا لا أُحَمِّل الدكتور البرادعى كل الحالة، ولكنها يمكن أن تحمل اسمه فقط. أقدر شخص الرجل كقيمة قانونية ودبلوماسية ودولية، ولكن أظن أنه فى حاجة إلى مراجعة مواقفه، فلن يكون سعيدا بأن يقارن وضعه بوضع «الثغرة». وأضع فى ذات المقام مجموعة السياسيين الذين يداعبهم حلم السلطة والانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة، وهم هنا يداعبون الصوت المنتمى للتيارات الإسلامية، وأيضاً يفكرون فى تحالفاتهم المقبلة مع هذه التيارات. لذلك نجد بعضهم، اليوم، يتخذ مواقف تبدو متخاذلة إلى حد بعيد إذا ما قورنت بالرغبة الشعبية. أما «الثغرة» الكبرى فقد كانت السماح فى الأيام الأولى بتكوين هذين الورمين فى العاصمة، كان ضرورياً حسم الأمور من البداية، وعدم السماح بتكوين ما تكوّن، فقد بدأوا عشرات، وتسربوا ليكونوا «ثغرة» تحاول دائماً أن تتمدد، ووجدت صدى داخل بعض الجهات والأشخاص داخل دائرة الدولة والحياة السياسية.
سوف تظل حرب أكتوبر هى أعظم انتصارات المصريين، رغم «الثغرة»، وستظل ثورة الثلاثين من يونيو أهم إنجازات المصريين حتى الآن، رغم «الثغرة» التى ليس لها مستقبل إلا الإزالة.