عبارة موحية وضعها الروائى الكبير إبراهيم عيسى فى روايته «مولانا» تكشف عن إحدى الآفات الفكرية والسياسية التى أصابتنا منذ الربع الأول من القرن العشرين، هذه العبارة الرائعة هى «لحية طويلة وبدلة إفرنجية من القرن الواحد العشرين تحمل رأسا من القرن الثانى عشر»، هذا هو الملخص الوافى لنمط من الأنماط التى صبغت الواقع بجهالةٍ تختفى وراء لحية، وتنطعٍ يرتدى زى الحداثة.
لم يكن إبراهيم عيسى الكاتب السياسى الكبير روائيا حين كتب روايته هذه، ولكنه كان عالما اجتماعيا ونفسيا حاذقا أخذ يحلل ببصيرةٍ وعلمٍ أكبر الآفات التى أصابت مجتمعاتنا فى الأعصر الأخيرة، وكان فى ذات الوقت حكيما رومانسيا حالما امتشق قلمه بفروسية ليواجه تيار الظلام، لذلك فإن العبارة الوحيدة التى أستطيع بها أن ألخص روايته «مولانا» هى: «قصة مشوقة مثيرة، كتبها شاعر صوفى، بلغة صافية ضافية، يحكى فيها عن أعتى المشكلات التى واجهتنا بعقلية عالم الاجتماع».
أدخلنا إبراهيم عيسى إلى روايته من خلال شخصية الشيخ حاتم الشناوى، ذلك الشيخ الداعية الذى حصَّل علما وفهما إلا أنه لم يقدمه للناس ولكن اختزنه وقام بالاتجار به، اعترف حاتم الشناوى بأن الأمر تحول عنده إلى دنيا، هو نفسه فى لحظة من لحظات الصدق قال لا تظنون أننى عالم دين فما أنا إلا تاجر دين أعرض من بضاعتى ما يريده الناس، ولكن الدنيا دهسته كما كانت تدهس الآخرين، نكبه الله فى ابنه الذى أصيب فى حادث بحمام السباحة، وهنا تداخلت شخصية حاتم الشناوى مع شخصية إبراهيم عيسى، حتى إننى أيقنت أن إبراهيم كان يكتب عن نفسه ويقطر حزنا وألما وهو يحكى عن تجربة الشيخ حاتم المروعة، كأنما كان إبراهيم يستعيد فى روايته فقده ابنه «يحيى» منذ سنوات، حتى إنه وهو يتحدث عن تجربة بطل روايته جعل الحادث الذى تعرض له الابن غامضا نوعا ما، وجعل الابن يختفى تماما من الرواية بحيث لا يظهر إلا أثره أو ذكره فى بعض مواضع الألم التى أكسبت الشيخ حاتم شفافية غالبت دنياه المادية، وكأن اختفاء الابن عن الأب هو الموت نفسه، كان الموت هو البطل الخفى فى هذه الرواية، وكان الغياب هو قرين الموت، فحيثما يغيب عنك من تحب فهو ميت، ولكن إبراهيم فى الحقيقة ـ وليس فى الرواية
ـ قاوم غياب ابنه، قاوم الموت، وقف أمامه يتحداه، أعاد إبراهيم ابنه للحياة مرة أخرى فى الوقت الذى لم يستطع فيه الشيخ حاتم أن يعيد ابنه من غيابه وغيبوبته، فإبراهيم لم يستسلم وحين أنجب من جديد، استعاد ابنه الميت فى ابنه المولود فأطلق عليه اسم «يحيى»، فمن ناحية اختار للمولود نفس اسم المفقود، ومن ناحية أخرى اختار اسم «يحيى» لتكون لابنه حياة جديدة، ولكأنما كان يقول للموت إنك لن تستطيع أن تغيّب عنى من أحببت، فحيث أعطانا الله القدرة على بث الحياة، فإن الموت لن يتغلب علينا. هل فعل إبراهيم عيسى بعد موت ابنه «يحيى» مثل الذى فعله الشيخ حاتم الشناوى؟! اختبأ الشيخ حاتم من نفسه فى أحد المساجد وعاش حياة صوفية أذل فيها نفسه المادية ليرتقى بروحه النورانية، أو ليعاقب طينته التى جرفته فى الحياة.
سارت الرواية بأحداثها المثيرة الشيقة ولغتها المشوقة فى اتجاه واحد هو كشف الزيف الذى قدموه لنا على أنه دين وما هو بدين، أماط اللثام عن الأمراض التى أصابت متدينى العصر الحديث، وضع لنا خطا فارقا بين الدين والتدين، فبينما الدين مقدس، ثابت فى علوه وشموخه، فإن التدين يزيد وينقص، والمتدين يرتفع حيناً لنورانية فريدة، وينغمس أحيانا فى شهوانية مستعرة، وليس معنى أن نختلف مع المتدين أننا نختلف مع الدين.
وفى رواية مولانا وضع إبراهيم عيسى حياة الداعية الذى يقدسه العامة فى مكانه ومكانته البشرية الحقيقية، فهو يكذب أحيانا ويصدق أحيانا، يمارس الرذيلة فى لحظات الضعف الإنسانى وكأنما يعاقب نفسه، ويلجأ للأضرحة وتنظيف حمامات المساجد فى وقت محنته فى طفرة صوفية احتوته فتشرنق فيها، وقبل هذا وبعده يبحث عن زيادة أرصدته فى البنوك فى الوقت الذى لا يهتم بأرصدته عند الله، ولكن أعظم ما فى الرواية هو تلك المنطقة الشائكة التى خاضها الكاتب عندما جعل العلاقة بين المسلمين والمسيحيين خطا من الخطوط الرئيسية للرواية، وللحق فإننى أشفقت على إبراهيم عيسى، كيف سيعالج روائيا وفكريا الانتقال بين الأديان؟ وكيف سيدير الشيخ حاتم الشناوى مناظرته مع المسلمين الذين اعتنقوا المسيحية؟! هل سيواجه العقيدة المسيحية ويحولها إلى معركة عقائدية، أم سيوافق على عقيدة المسيحيين فيضع بطل روايته- أو يضع نفسه ـ فى خانة المرتد الذى يدعو للتنصير، عند هذا الحد من الرواية توقفت عن الاستمرار فى القراءة لأيام، أبحث فى داخلى عن الطريقة التى من الممكن أن يلجأ إليها الكاتب، ولكننى لم أستطع الوصول إلى الوسيلة، فعدت للرواية لأجد الكاتب قد أخرج البطل من مناقشة العقائد، إلى المناقشة حول طريقة التفكير، تفكير المتحولين من هذا الدين إلى ذاك أو العكس، فكلهم لم يتعمق فى دينه، وكلهم لم يعرف الدين الذى هو مقبل عليه.
وبسلاسة يصل بنا الكاتب إلى المحطة النهائية للرواية، تلك المحطة التى تم فيها تفجير كنيسة القديسين، وإذا به يضعنا أمام مفاجأة مذهلة، هذه المفاجأة جعلتنى أعود إلى قراءة الرواية مرة أخرى لأبحث فى مقدماتها التى قادتنا لهذه النهاية، فإذا بالكاتب وقد وضع لمحات شبه مخفية أو بالأحرى مختبئة وراء غِلالة رقيقة تقودنا حتما لنهاية صادمة، نهاية تحلل لنا المشهد الذى يحدث لمصر فى هذه الأيام.