شخصيًّا لستُ مقتنعًا كثيرًا بما جاء فِى كتب التَّارِيخ من أن عُمَر بْن الْخَطَّابِ عزل خَالِد بْن الْوَلِيدِ حَتَّى لاَ يُفتَن بِهِ النَّاس، وأعتقد أن هَذَا التَّعْبِير قِيلَ بشكل دبلوماسى على لسان عُمَر بْن الْخَطَّابِ، أو على لسان المؤرّخين الَّذِينَ اعتبروا أن هَذَا التَّعْبِير سوف يخفِّف من عُنف مثل هَذَا القرار، وَهُوَ أن يخرج قَائِد منتصر مثل خَالِد بْن الْوَلِيدِ خارج ساحة وميدان المَعْرَكَة تمامًا بقرار مُهِمّ، وعاجل، وقوىّ من عُمَر بْن الْخَطَّابِ، والحَقِيقَة أن خَالِد بْن الْوَلِيدِ كشَخْصِيَّة كَانَت صفاته تتداخل فِيهَا أمور تجعل شخصًا عَظِيمًا مثل عُمَر بْن الْخَطَّابِ يقرِّر عزْلَه، بمعنى أن خَالِد بْن الْوَلِيدِ كَانَ غَضُوبًا، أى كثير الغضب.
وتذكر لنا كتب التَّارِيخ أنه عِنْدَمَا كَانَ يغضب كَانَ يمتقع لونه، وكان خَالِد بْن الْوَلِيدِ يغضب، ويتشاجر مع أصَحَابِه أنفسهم، حَيْثُ يحكى لنا التَّارِيخ أحاديث المُغاضَبَة، فعلى سبيل المثال كَانَت بينه وبين أَبِى عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح، أحد القُوَّاد الْعِظَام فِى التَّارِيخ الإِسْلاَمىّ، وأمين الأُمَّة كما أطلق عَلَيْهِ الرَّسُّول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، مُغاضَبة، إذ حدثت بينهما مَعْرَكَة فكرية سياسية مهمة جدًّا بعد فتح دمشق، فعِنْدَمَا سُلِّمَت الإِمَارَة للمُسْلِمِين، وعملوا هدنة ومعاهدة، كَانَ رأى أَبِى عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح أن هَذِهِ مصالحة ومعاهدة، أما خَالِد بْن الْوَلِيدِ فكان يعتبر هَذَا انتصارًا عَسْكَرِيًّا من المُسْلِمِين على دمشق، ومن ثم كَانَ جادًّا فِى هَذَا الموضوع تمامًا، وكما تَذكُر كتب التَّارِيخ، كَانَ لَهُ حِدَّة يملكها أو تملكه، أى أن الغضب إما يتمكن مِنْهُ، وإما يفوق أىَّ مقام لَهُ.
وللأستاذ عباس العقاد رأى فِى هَذَا السياق هُوَ أن الحوادث الَّتِى بلغتنا إشارة إِلَى الكثير الَّذِى لم يبلغنا، بمعنى أن كون خَالِد بْن الْوَلِيدِ غضب من أَبِى عُبَيْدَة الْجَرَّاح فِى هَذَا الأمر، بينما استنكر أبو عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح واستنكف أن يقتصّ من أهل حمص أو يأخذ نساءهم سبايا وأموالهم غنيمة، مَا دَاموا قد سلّموا لهم، وكان رأيه أن هَذَا الفعل لَيْسَ فتحًا وَإِنَّمَا جِبَايَة، وأن هَذَا لَيْسَ رفعًا لراية الإِسْلاَم، وَإِنَّمَا للانتصار العَسْكَرِىّ، ويُوجَد فرق فِى الرأى بين قَائِد عَسْكَرِىّ لاَ يرى إلا المعارك والحرب، ورأْى أبِى عُبَيْدَة الْجَرَّاح ومِن ورائه عُمَر بْن الْخَطَّابِ، فما يفعلانه هُوَ هداية لا مَعْرَكَة ولا خناقة، وأن ما حول الإِسْلاَم ومعاركه من كلمة الغزو إِلَى كلمة الْفَتْح هُوَ أبو عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح وعُمَر بْن الْخَطَّابِ لاَ خَالِد بْن الْوَلِيدِ، لذَلِكَ فإن الانتصار العَظِيم حقَّقه عُمَر بْن الْخَطَّابِ، والقيمة الَّتِى أرساها أبو عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح هِىَ أنَّنَا نفتح لا نغزو، ولسنا نطمع فِى الأرض، أو المال، أو السَّبَايَا، أو الغنائم، وأن ما نبغيه هُوَ فتح من الله ونصر.
هَذَا النصر هُوَ الَّذِى جعل عُمَر بْن الْخَطَّابِ يقرِّر عزل خَالِد بْن الْوَلِيدِ، ولم يكتفِ خَالِد بْن الْوَلِيدِ بهَذِهِ المغاضبة مع أَبِى عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح، ولكن تَذكُر لنا كتب التَّارِيخ أنه غاضَبَ عبد الرحمن بْن عوف، وعمار بْن ياسر على مسمع ومشهد من الرَّسُّول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، إذ قَالَ خَالِد بْن الْوَلِيدِ لعمار بْن ياسر: «لقد هممت أن لا أكلِّمك أبدًا»، فأصبح بينهما النَّبِىّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ وَهُوَ يَقُول لخَالِد: «ما لك ولعمار؟ رجل من أهل الجنة قد شهد بدرًا»، ثم يَقُول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لعَمَّار: «إن خَالِد يا عَمَّار سيف من سيوف الله على الكُفَّار»، وتحكى لنا كتب التَّارِيخ عن اعتزاز خَالِد بْن الْوَلِيدِ بِنَفْسِهِ وبقُدُرَاته.
كما يجب أن تلاحظ التكوين الاجتماعى لخَالِد بْن الْوَلِيدِ باعتباره من أبناء الثَّرَاء، ومحبى الرفاهية، وبهجة الحياة، لدرجة أنه لم يفرغ من الحرب إطلاقًا إلا تَزَوَّج، وتذكر لنا كتب التَّارِيخ أن حياة خَالِد بْن الْوَلِيدِ كَانَت عام غزو، وعام نساء، فمثلا ينتهى من مَعْرَكَة اليمامة فينتقل إِلَى زوجة من الزوجات الجديدات، وينتهى من موقعة الجندل فيتزوج بأخرى حسناء، وهَذَا دليل على الرفاهية الَّتِى يعيشها فارس من الفرسان الْعِظَام هُوَ خَالِد بْن الْوَلِيدِ.
عِنْدَمَا عُزل خَالِد بْن الْوَلِيدِ عن قيادة الْجَيْش تراجع دوره، واختفى تَقْرِيبًا من صَفْحَات الْكُتُب والتَّارِيخ، وانْتَهَى إِلَى بضع صَفْحَات بعد عزله بدلا من تصدُّره المشهد التَّارِيخىّ من غزوات وفُتُوحَات. إذن يجب أن نعترف ونحن نقرأ هَذَا التَّارِيخ أن دور خَالِد بْن الْوَلِيدِ كقَائِد عَسْكَرِىّ هُوَ الدور الَّذِى كَانَ يمتلك حياته، بمعنى أنه بمُجَرَّد فراغه من القتال، وبمُجَرَّد رحيله من ساحة المَعْرَكَة والحرب ينسحب دوره السِّيَاسِىّ، والفهقىّ، والدِّينِىّ.